جليلة هي الحياة التي عاشها ابن القيم الفقيه الفهامة المدقق والعلامة المحقق؛ حيث امتلأت بالدفاتر والأقلام التي أصبحت كافيةً لتدوين أقوال ملايين الأدباء والأعلام.
لمحة مشرقة عن تلميذ شيخ الإسلام | ابن القيم
كم صرت محظوظةً للغاية باقتناص هذه الفرصة الماسية التي سأُدون فيها بأقلامي نبذة عن الإمام العالم الجليل الملقب بـ ابن القيم الجوزية! ربما هي من ذوات الفرص الوحيدة التي يخلو قاموسها من التكرار، فيا ليت اليوم يُعاد مجددًا لكي أتحدث فيه أكثر وأكثر عن مَن امتلك علمًا غزيرًا وصل به إلى أعلى الدرجات.
اشتُهر بـ ابن القيم وسُمى بأبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي، فقيه ومحدث وعالم نبيل ولد في 28 يناير عام 1292م/ 7 صفر 691هـ في مدينة دمشق السورية التي قال أمير الشعراء احمد شوقي أجمل القصائد فيها، ويرجع سبب شهرة ابن القيم بهذا الاسم إلى أن أباه كان قيمًا على إحدى المدارس الجوزية فعُرف بـ ابن القيم نسبةً إلى مهنة والده.
اتسم هذا الإمام بحسن الأخلاق والكرم وميوله الغفير إلى الإطلاع على القراءات، وكان محبًا للآخرين غير حاقد على الغير، فلم يؤذي أحد بلسانه أو بيده.
نشأة الإمام الجليل ابن القيم الجوزية
ترعرع فقيه الأمة وعالمها النابغ ابن القيم في أكناف سوريا التي ظلّت منبعًا فسيحًا للعلماء في ذلك التوقيت، وشبّ هذا الإمام في بيئة صالحة حرصت على تلقينه أكبر قدر من العلوم والمعرفة، فنشأ نشأةً سليمةً جعلته يحاكي أكبر أعلام الإسلام الذين حفروا أسماءهم من ذهب في كتب التاريخ.
قد يرجع الفضل للمكانة الرفيعة التي بلغها ابن القيم إلى بيت الصلاح والعلم الذي نما فيه، فطفولته خير شهيد على ما تلقاه من العلم في صباه إذ كان حريصًا على حضور مجالس العلماء وكبار الأئمة، ولم يكتفِ بما حصّله من العلم في مدينته الجميلة دمشق بل ارتحل إلى المحروسة مصر التي أنجبت علماءً بل أعظم العلماء، وذلك لكي يطلب العلم فيها.
كان ابن القيم منذ صغره تابعًا للمذهب الحنبلي الذي أسسه الإمام احمد بن حنبل حتى صار أحد أبرز أئمة هذا المذهب، وعندما تسنت له فرصة مقابلة ابن تيمية لكي يتلمذ على يده هرول لاقتناصها فتغيرت حياته العلمية وتأثر كثيرًا بشيخه، فأصبح لا يأخذ بالآراء والفتاوى التي ذُكرت في مذهب الحنابلة إلا بعد استدلاله عليها بالأدلة من الكتاب والسنة أو أقوال الصحابة فيها، لذا اعتبره العلماء بأنه أحد المجتهدين الذين أفنوا حياتهم في سبيل التفقه الديني ونيل العلوم.
ملازمة التلميذ لأستاذه في المحن قبل المنح
التقى ابن القيم بابن تيمية في عام 1313هـ ومنذ أن لقاه وهو مرافقًا له حيث أخذ عنه علمًا جمًا، فحصّل قدرًا هائلًا من العلم والمعرفة في شتى الفروع الإسلامية من جراء شدة فطانته وسعة ذهنه، فسبعة عشر عامًا قد شهدت على صحبتهما.
استمر ابن القيم في ملازمة شيخ الإسلام حتى صار من أقرب رفقاء الشيخ، فكان خير الصديق والصاحب له، فكلما غيّر ابن تيمية دربه لحق به ابن القيم حتى حينما قرر الأستاذ الهجرة من مصر إلى موطنه دمشق خلفه التلميذ.
لم تكن دروب السعادة وحدها مَن تجمع الرفقاء معًا بل ممرات الصعاب والشدائد أيضًا، فلقد سُجن ابن القيـم مع أستاذه ابن تيمية في زنزانة واحدة في أحد سجون دمشق، وبقى الاثنان على حالهما هذا حتى أُفرج عن الأول عقب وفاة شيخه بفترة زمنية، وتعرض ابن القيم للإهانة القصوى لدرجة أنه حُمل على بعير وأُلقيَ بالحجارة وطيف به في أرجاء المدينة.
خطا ابن القـيم على نهج أستاذه وشيخه في العقيدة ولكن باتت له آراء معينة في الحديث وأصول الفقه وكثير من المسائل الدينية، وألّف كتبًا كثيرةً في النحو والتفسير والعقيدة بالإضافة إلى قصائده الشعرية الفريدة، ويمكنك عزيزي القارئ تحميل أفضل كتب ابن القيم pdf للنهل من علمه الغزير.
شيوخ وتلاميذ الإمام الفاضل ابن القيم
انبثق من رحم أمتنا الإسلامية كثيرٌ من العلماء الأجلاء الذين تضلعوا في علوم الدين وأجادوا في أصول الشريعة، ومن أبرز هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية الذي ظلّ مرافقًا لأستاذه حتى لحق شيخه بالرفيق الأعلى، وسمع الحديث عن كثير من الشيوخ سأذكر بعضهم فيما يلي:-
– الشهاب العابر.
– علاء الدين الكندي.
– سليمان بن حمزة.
تعلم ابن القـيم الفقه على يد كثيرين وهم ما يلي:-
– تقي الدين بن تيمية، كما أخذ الفرائض عنه وتعلم أصول الدين منه.
– شرف الدين بن تيمية.
– مجد الدين الحراني.
أما عن تلامذة الإمام ابن القـيم فتلمّذ على يده كثيرون أمثال الحافظ بن كثير، الصفدي، ابن رجب الحنبلي، هؤلاء الذين انتفعوا بعلمه الغزير وظلّت علومهم ومؤلفاتهم باقيةً حتى يومنا هذا.
نونية ابن قيم
تُسمى هذه النونية باسم “الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية” وهي التي ذكر فيها قول الأشاعرة في السمات والتأويلات، وخصص بها فصلًا كاملًا يتحدث فيه عن اهتدائه بأقوال هؤلاء إذ كان يتلفظ بألفاظهم، كما ذكر بعض الأقوال المذكورة في كتب النفاة من الطامات، ووضّح مدى تأثيرها السلبي على الدين ومعارضتها للكتاب والسنة.
ولم يسلم ابن القيم من تسطير تجربته قبل مقابلة شيخ الإسلام الذي أخذ بيده نحو طريق الفلاح، فعقد بابًا في هذه النونية أعلن فيه سقوطه في فخ المهالك حتى أتت مشيئة الرحمن أن يلهمه بمَن سينتشله من هذا الهلاك، فكان ابن تيمية هو المنقذ له في تلك الأحيان، فأخذه تحت جناحيه حتى وصل معه إلى برّ التوبة والأمان.
ويقول ابن القـيم في أحد سطور نونيته ما يلي:-
حبر أتى من أرض حران فيا أهلا بمن جاء من حران
فالله يجزيه الذي هو أهله من جنة المأوى مع الرضوان
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان
مؤلفات ابن القيم | التي أنارت القلوب بعد عتمتها
لابن القـيم كتب خلدها التاريخ وأقوال مأثورة لا زالت راسخةً في العقول من جراء مداواتها لكثير من آلام القلوب، فلم يكن طبيبًا يداوي الآلام بالدواء بل كان يعافيها بطيب الكلام، فدعونا نغوص في بحور أهم مؤلفات هذا العلامة الكبير ومن ثم نُبرز لآلئها في السطور التالية:-
– كتاب الداء والدواء
لم يكن كتاب ابن الـقيم الداء والدواء مجرد ثروة علمية أُثريت بها المكتبة العربية بل كان علاجًا لمشكلات النفس البشرية؛ فيُشفي جروحها ويداوي آلامها، فما أعظم نهج الشفاء بالقرآن الكريم والسنة المحمدية الذي اتبعه هذا الإمام الفاضل!
– كتاب تفسير ابن القيم
يعد هذا الكتاب أحد أشهر كتب التفسير التي شُرح فيها آيات القرآن الكريم، فهو نسيج مكون لخيوط التفاسير المعروفة والرائجة التي وضّح فيها ابن القيم كثيرًا من الآيات القرآنية، وسلّط الإمام أضواء علمه الساطع وحسّه البلاغي الرفيع على هذه التفاسير، واستشهد بالحجج المتينة التي خلت من اللبس فجاء تفسيره سهلًا سلسَ الفهم خاليًا من التعقيد.
ومن الآيات القرآنية التي فسرها ابن القـيم في كتابه هذا آية سورة الكهف (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) التي احتمل فيها الإمام معنيين وهما ما يلي:-
الأول: أن أعين هؤلاء قد وضعت في غطاء محكم الغلق فلا يمكنها رؤية آيات الله، وعجائب قدرته.
الثاني: أن أعين أفئدتهم قد غُلفت بستار لكي يحجب رؤيتها عن فهم القرآن وتدبره والاحتذاء به، وهذا الغلاف سرى من القلب إلى العين.
– كتاب جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام
لعل أفضل مَن سطّر فوائد الصلاة على النبي ابن القيم وذلك في كتابه هذا؛ حيث احتضنت صفحات هذا الكتاب أربعين فائدة، سأذكر بعضًا منها فيما يلي:-
1- خضوع لأوامر الله تعالى.
2- أن الصلاة على خاتم الأنبياء والمرسلين سببٌ في تكفير الذنوب.
3- أنها الطريق الموصل للجنان حيث تُلقي بصاحبها على مشارف الجنة.
4- يُكتب بها عشر حسنات ويُمحى بها عشر سيئات.
5- موافقتنا لله -عز وجل- في الصلاة على أشرف الخلق حتى وإن تفاوتت الصلاتان، فصلاة المولى عليه تمجيد وتكريم بينما صلاتنا عليه تضرع وسؤال.
6- يتقرب مكثرو الصلاة على النبي منه يوم لا ينفع مال ولا بنون.
7- تحل هذه الصلاة مقام الصدقة لذوي العسرة.
8- احتوائها على ذكر الله وشكره، ومعرفة مدى إنعامه وفضله علينا بإرساله رسول الله لنا.
9- ومن أبرز فوائد الذكر لابن القيم أنه سببٌ كاف لنيل رحمة الله تعالى.
10- تنجي كثيرون من أهوال يوم القيامة.
أنواع الابتلاء ابن القيم
قسّم ابن القيم البلاء الذي يصيب العبد إلى أربعة أقسام وهم: إما أن يكون في نفس العبد، أو في أهله وأحبائه، أو في ماله، أو في عرضه، فعلى أي حال فإن شتى هذه الابتلاءات تقرب بين العبد وربه حيث يهرول إليه متضرعًا وراغبًا في فك كربته، كما يختبر الله تعالى صبر عباده في تلك الأوقات العصيبة التي تملؤها الهموم والمصائب.
هل ابن القيم صوفي؟
أصبح هذا الأمر موضع اختلاف كثير بين أهل العلم، ولكنه على أي حال لا يمكن لأحد التقليل من هذا الإمام العظيم الذي بلغ من الفقه والحديث ما بلغ وحصّل من علوم اللغة ما لم يحصله غيره، وتمثلت آراء العلماء في مسألة هل كان ابن القيـم صوفيًا أم لا في أمور عدة سأذكر الصحيح منها:-
1- حينما ذكر فضل شيخ الإسلام ابن تيمية في إنارة الطريق الصحيح أمام عقله فضلًا عن اعتقاداته الخاطئة التي ظلّ سائرًا عليها، فأعلن توبته عما كان عليه من الخطأ ومذهب الصوفية، وهذا دليل على إنحداره عن مذهب الصوفيين.
2- كما ذُكر في كتابه “مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين” الذي شرح فيه صفحات كتاب أبي إسماعيل الهروي “منازل السائرين” حيث أبطل فيه كثيرًا من المعتقدات الصوفية، وبهذا فالإمام ابن القيم ليس صوفيًا على حسب إجماع أغلب العلماء.
مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد عند ابن القيم
ربما أفتى ابن القيم في مسألة أن (الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقةً واحدةً) إذ دخل بهذا القول إلى دوامة المشكلات، فانهالت عليه رصاصات الألفاظ من القضاة، فكيف لعالم جليل مثل ابن القـيم أن يفتي في مسألة شرعية لا تخضع للجدال؟! ولكن! مهما بلغ الآدمي من العلوم فسيظلّ إنسانًا والإنسان ليس معصومًا من ارتكاب الأخطاء.
أجمل أقوال ابن القيم في الحب والأخلاق
لقد نطق الإمام بـ اجمل ما قيل في الحب والأخلاق من الحكم والأقوال سأذكر بعضًا منها في سطوري التالية:-
– محبوب اليوم يعقب المكروه غداً، ومكروه اليوم يعقب الراحة غداً.
– أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها، وأنفع لها في معادها.
– يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين: بكائه على نفسه، وثنائه على ربه.
وفاة الإمام الفذّ والعلم المتبحر | ابن القيم
إنه اليوم الثالث عشر من شهر رجب عام 751هـ؛ يوم قد حُفر في أذهان الأمة أجمع وحتى وقتنا هذا من جراء فقد عالمها الجليل وطبيبها الذي عالج السقيم وصاحب المصنفات المفيدة والتصانيف النافعة؛ ابن القـيم الذي لفظ رمقه الأخير في هذا اليوم وقت أذان العشاء ولكن صُلت عليه صلاة الجنازة عقب ظهر اليوم التالي مرتين أولهما بالجامع الأموي والثانية بجامع جراح، وتم دفن جثمانه في دمشق بمقبرة الباب الصغير.
هل تزوج ابن القيـم رحمه الله؟
لم يتزوج ابن القيـم طيلة حياته حيث أفنى عمره في سبيل التزود بالعلم والمعرفة.
ما هي أجمل حكم ابن القـيم؟
علّم ابنك أن يقبلك على رأسك لا على يدك حتى يتعلم الشموخ والعزة بدلاً من أن يتعلم الانحناء والإذلال.
ماذا رأى ابن القـيم قبل وفاته؟
قيل إنه قد رأى قبل موته شيخه ابن تيمية في منامه، فسأله عن منزلته فأجابه: لقد كدت تلحق بنا إلا أنك في منزلة ابن خزيمة وهذا دليل على رفعة مكانتهما.
ما مدى تأثر ابـن القيـم بشيخه ابن تيمية؟
تأثر ابـن القـيم بشيخ الإسلام كثيرًا وظهر ذلك على ثقافته ومعتقداته فكان له بحرٌ ينهل من علمه.