لم تدرك العرب في زمانه أعلم باللغة منه فكان أتقنهم لها، كان أحفظ الناس وأقدرهم على نقل النوادر، وصفه البعض بأنه أروى الناس للرجز، والبعض الآخر وصفه بأنه صاحب سنة نبوية، وما بين هذا وذاك يظل الأصمعي متربعًا على عرش العلم، فهو بحر متسع ليس له قرار وأصدق من نقل الأخبار.
الأصمعي | نسبه ونشأته
كان قامة شعرية استثنائية، وعالمًا بأمور اللغة والنحو، قادرًا على نقل الأخبار والغرائب من أي مكان، هذه مواصفات لا تتوفر إلا بشخص حاد الذكاء، شديد الإدراك هو الأصمعي ، الذي بلغ مكانة كبيرة لدى الخلفاء لم يصل إليها أحد من قبله.
اسمه هو عبد الملك بن قُريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع، وقد ولد في عام 123هـ في مدينة البصرة التي ولد بها أيضًا الجاحظ ، ويبدو أنه لا يولد بها إلا العظماء.
كما أنه ينتمي إلى قبيلة الباهلية، وتعد هذه القبيلة من أوائل القبائل التي سكنت البصرة، ويذكر أن هذه القبيلة كانت تتكون من عدد كبير من الأشخاص حتى تفرعت إلى العديد من الأسر كانوا يعيشون معًا في حي واحد من أحياء البصرة، وقد لقب بالأصمعي نسبة إلى جده.
نشأته العلمية:
يقال بأن (التعليم في الصغر كالنقش على الحجر) وهذه المقولة تنطبق على الأصمعي ، حيث نشأ في كنف أسرة تهتم بالعلم والأدب، مما أثر على حياته فاهتم بالأدب وأحبه حتى صار أديبًا له وزنه، وتعلق بالكلمات العربية منذ الصغر حتى استطاع تطويعها في كتابة أجّل المؤلفات.
وقد ترعرع في بيئة تموج بالعلم موجًا، فقد كان عصره ملئ بالنخب التي بمجرد الجلوس معها يُثرى العقل بالعلوم فما بالك بأخذ العلم عنها! حيث برز في هذه الفترة أئمة الفقه مثل الشافعي و احمد بن حنبل ، وأئمة الحديث مثل سفيان الثوري وغيرهم من نوابغ العصر.
وقد استطاع أن يتتلمذ على أيديهم وأخذ العلم عنهم، وظل يتردد على مجالسهم حتى صار علمًا، فقد كان لديه ملكة الحفظ بمجرد السماع حتى وصل الأمر به إلى حفظ 12 أرجوزة قبل أن يبلغ مبلغ الشباب.
ويذكر أنه ذاع صيته في العلم والأدب بالإضافة إلى معرفته الواسعة باللغة قدراته الفذة في نقل أخبار العرب وأشعارها، وتناقلت الناس هذه القدرات فيما بينهم حتى وصل خبره إلى الرشيد فاستدعاه إلى قصره وقربه منه وأجلسه في مجالس العلم والأدب.
الأصمعي وعلاقته بالشعر
لم يكن متمكنًا في الشعر كتمكنه في اللغة والأدب، حيث إنه لم يكن يوجد لديه المقدرة على تنظيم القصائد والأشعار، وهذا ما أدركه الأصمعي ذاته حيث قال:
أبَى الشِّعرَ إلا أنْ يَفيءَ رديئُه.
عَلي ويَأبَى مِنهُ مَا كَانَ مُحكمَا.
فيَا لَيتَني إن لَم أجِدْ حوك وشِيهِ.
ولَم أكُ مِن فُرسانِه كنت مُفحَمَا.
وعلى الرغم من عدم قدرته الشعرية إلا أنه أثرى الشعر العربي بالأصمعيات التي تحوي بداخلها على ذروة ما كتبه أفضل الشعراء سواء من ينتمون إلى العصر الإسلامي أو العصر الجاهلي.
واتبع منهجًا متميزًا في كتابة الأصمعيات، حيث اعتمد على اختيار أفضل ما قدمه كل شاعر، كما أنه لم يكن يذكر القصيدة كلها بل يتخير مجموعة من الأبيات الخاصة بها.
ويذكر أن الأصمعي كان يمتلك من الفطنة ما مكنه من إبراز الأغراض الشعرية قاطبة في الأصمعيات، والعجيب في أمر الأصمعي عند كتابته لها أنه لم يعرض أيا من أشعار شعراء العصر العباسي ، ولكن يُعلل هذا الأمر أنه لم يكن يهتم بالشعر الحديث.
الشعر الذي قتل صاحبه
كان البيت الشعري سببًا في موت صاحبه كما قص الأصمعي ، وهذا البيت هو (( أيا معشر العشاق بالله خبروا ….. إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع ))، وتدور قصة هذا البيت أن الأصمعي كان يتجول في أحد الأيام في الصحراء فمر على صخرة كُتب عليها هذا البيت، فقام هو الآخر بكتابة البيت التالي:
((يداري هواه ثم يكتم سرَّه ….. ويخشع في كل الأمور ويخضعُ)).
وبعد ذلك عادة مرة ثانية إلى نفس المكان فوجد قد كتب تحت بيته الذي كتبه في الأمس ((وكيف يداري والهوى قاتل الفتى ….. وفي كل يوم قلبه يتقطعُ))، فقام الأصمعي بكتابة هذا البيت ((إذا لم يجد صبرًا لكتمان سرِّه ….. فليس له شيء سوى الموت ينفعُ)).
وفي اليوم الثالث وجد شابًا ميتًا تحت الحجر الموجود عليه هذه الأبيات وعليه شعر له يقول:
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلِّغوا ….. سلامي إلى من كان بالوصل يمنعُ.
هنيئًا لأرباب النعيم نعيمهمْ ….. وللعاشق المسكين ما يتجرعُ.
قصص مثيرة في حياة الأصمعي
انتشر عن الأصمعي قصص متعددة منها ما يبرز مكانته الأدبية وقدرته على الحديث وجلب الأنظار، ومنها ما يؤكد على فصاحة العرب وقدرتهم الشعرية ومن أشهر هذه القصص:
أولًا: قصة الأصمعي مع هارون الرشيد
تدور هذه القصة حول دخول الأصمعي على هارون الرشيد فيرى معه جارية شديدة الحسن كأنه القمر، فيطلب منه هارون الرشيد أن ينشد فيها شعرًا يصفها فيه فأنشد قائلًا:
كنانية الأطراف سعدية الحشا ….. هلالية العينين طائية الفمِ.
لها حكم لقمان وصورة يوسفٍ ….. ونغمة داودٍ وعفة مريم.
فأعجب هارون الرشيد بهذا الوصف أيما إعجاب، وسر من قدرة الأصمعي على تنظيم أبيات شعرية في غاية الروعة.
ثانيًا: قصة الأصمعي والاعرابي
إن هذه القصة تؤكد على مدى فصاحة العرب وطلاقة لسانهم في الشعر، حيث إن الأصمعي تعرض لحرج شديد على يد أعرابي فأراد أن يحرجه هو الآخر فسأله عن مقدرته الشعريةـ فقال له الرجل إنه يستطيع أن يتغلب على أي شاعر، فطلب منه أن ينشده من الشعر الذي ينتهي بالواو الساكنة ففعل الأعرابي، ثم رغب أن يعجزه أكثر فظل يطلب منها أبيات شعرية والأعرابي يجيبه، فتيقن الأصمعي من قدرته الشعرية وأنه لن يستطيع أن يجاريه.
ثالثًا: قصة الأصمعي مع الفتاة
يحكي الأصمعي أنه عند نومه بالقرب من مقابر البصرة وجد فتاة تنشد الشعر الحزين في موت حبيبها وتقول: ((بروحي فتى أوفى البرية كلها… وأقواهم في الحب صبرًا على الحب)).
وعندما سألها عن تفسير ما قالته أخبرته أن حبيبها هو ابن عمها وأنها لا تطيق الحياة بدونه، وذلك لأنه مات وهو ينشد الشعر فيها، وعندما استفسر منها عن الشعر رددته له ثم ماتت هي الأخرى.
رابعًا: قصته مع جعفر المنصور
يُحكى أن جعفر المنصور كان لديه ملكة الحفظ هو وجارية له وغلامًا، ولم يكن يرغب في إعطاء المال للشعراء، فزعم أن كل ما يقوله الشعراء إنما هو كلام منقول، وأعلن أن من يأتي بقصائد لم يحفظها أحد ستكون له مكافأة كبيرة.
وقد أتي له أفضل الشعراء العرب حينذاك، وكان كلما أتى شاعرًا ويبدأ في إنشاد الشعر كان يقول له إنه سمع القصيدة من قبل، فيرددها له بالإضافة إلى أنه كان يأتي بالجارية والغلام لينشدا نفس القصيدة فيفعلا.
ووصل هذا الخبر إلى الأصمعي الذي قرر أن يتحدى جعفر المنصور بقصيدة لن يتمكن أي شخص من إعادتها، وذهب إلى مجلسه وأنشد قصيدة صفير البلبل وكانت كلماتها غريبة إلى حد الإعجاز، وبالفعل لم يتمكن أي شخص من إنشادها مرة ثانية.
وفاة الأصمعي
تعلم فأبدع وظلت حياته عبارة عن مسيرة علمية في الأدب واللغة ونقل الأخبار حتى قضى نحبه في عام 216 هـ وهي أصح الآراء، وكان ذلك في مدينة البصرة.
ما اجمل ما كتب الأصمعي في الشعر ؟
لم تكن قصائد الأصمعي كثيرة بل كانت قليلة للغاية، حيث إنه لم يجد كتابة الشعر ولكن أجمل ما كتبه هو قصيدة يا فاطر الخلق والتي تبدأ بـ ((يَا فَاطِرَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ وَكَافِلاً … رِزْقَ الْجَمِيعِ سِحَابُ جُودِكَ هَاطِلُ)).
ما هي أهم مؤلفات الأصمعي ؟
إن الأصمعي ضليع في الكتابة فتارة يؤلف في الشعر ومرة يؤلف في النقد وتارة أخرى يؤلف في النحو والأخبار فهو موسوعة كاملة، وأهم ما ألفه يتمثل في الكتب التالية ((فحولة الشعراء، خلق الإنسان في اللغة، الشاء، اشتقاق الأسماء)).
ما رأي البغدادي في الأصمعي؟
يرى البغدادي أنه كان على دراية كبيرة باللغة حيث قال: (كان بحرًا في اللغة لا يُعرف مثله في كثرة الرواية).
ما هي الأصمعيات؟
إن الأصمعيات عبارة عن عدد من القصائد المتنوعة التي اختارها الأصمعي بعناية فائقة من الشعراء الكبار سواء شعراء العرب أو شعراء الجاهلية.