علَم من الأعلام، وجهبذ من جهابذة الإسلام، أصدر كتاباً لا يفوقه في حسنه وصحته إلا القرآن، فكأنما حبا الأمة دليلاً مرشداً يبسط لها ما استصعب من الأحكام ويبين لها ما صح من أخبار السيرة لإرواء ظمأ العطشان وينفي الشكوك عن العقيدة الصحيحة بما تيسر من واضح البرهان، إنه الإمام البخاري الذي لم يورثنا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثنا علماً انتفعت به الأجيال على مر العصور والأزمان.
طاف البلاد وجال في البصرة والكوفة ودمشق والحجاز وبغداد لا لأجل دنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها وإنما لأجل تحقيق أنبل مراد وهو طلب العلم الشرعي والتفقه في دين الله وتوثيق سنة رسول الله، فأصاب أجراً يضاهي أجر الصائمين القائمين العُبَّاد.
سيرة الامام البخاري :
لا شك أن سيرة الامام البخاري من أعطر السير، فهي تكشف لنا قصة حياة الرجل الذي قضى جل عمره في طلب العلم وجمع الأحاديث، الرجل الذي آثر أن يعيش مجاهداً في سبيل الله، لا بسيفه وإنما بعلمه! لذا سنتناول في القادم من السطور نبذة عن سيرة البخاري من خلال تسليط الضوء على الجوانب التالية:-
1) اسم الإمام البخاري :
ربما لا يعرف الكثير منا أن اسم الإمام البخاري هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخـاري، وقد سمي جده المغيرة بالجعفي لأنه كان مجوسياً وأسلم على يد شخص يدعى اليمان الجعفي فنسب إليه وفق العادة السائدة آنذاك وانتقل هذا الولاء إلى ذريته، وجاءت تسمية البخـاري نسبة إلى مدينة بخارى الأوزبكستانية، أما كنية الإمام فهي أبو عبد الله.
2) مولد الإمام البخاري :
ولد البخاري تحت سماء إحدى مدن أوزبكستان وهي مدينة بخارى، وذلك في ليلة الجمعة التي توافق الثالث عشر من شهر شوال عام 194 هـ، نشأ يتيماً في كنف والدته، ويذكر أن بصره أصيب في صغره فأضحى كفيفاً حتى رأت أمه في المنام نبي الله إبراهيم عليه السلام يبشرها قائلاً ((يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك ولكثرة دعائك))، فارتد بصيراً.
3) حياة البخاري :
ترعرع البخاري بين أحضان عائلة متدينة ثرية ذات أصول فارسية أو عربية أو تركية إذ اختلف المؤرخون في ذلك، وكان والده إسماعيل من العلماء المحدثين وأحد رواة الأحاديث المعروفين في عصره، غير أن المنية وافته وابنه محمد لا يزال طفلاً رضيعاً، فقامت الأرملة المسكينة بدور الأم والأب وأحسنت تربية صغيرها وزرعت فيه حب العلم منذ حداثة سنه، فالتحق بالكُتاب وبدأ في حفظ القرآن الكريم وأمهات الكتب قبل إتمام العاشرة من عمره.
ثم انصرف البخاري إلى دراسة الحديث على أيدي العلماء وأبدى اهتماماً بالغاً بمعرفة الأحاديث الصحيحة والضعيفة والإحاطة بأحوال الرواة وكل ما يتعلق بعلوم الحديث، وعندما بلغ السادسة عشر من عمره خرج إلى الحج برفقة أمه وأخيه، حتى إذا ما فرغوا من المناسك عادت أمه وأخوه بينما تخلف هو عنهم وآثر البقاء لطلب العلم والأخذ عن شيوخ مكة والمدينة، وفي هذه الأثناء عكف على تأليف كتاب التاريخ الكبير في الجرح والتعديل وعمره لا يتخطى الثامنة عشر.
4) رحلاته في طلب العلم :
تنقل البخاري بين معظم الأمصار والبلدان والحواضر العلمية الإسلامية المعروفة في ذلك الوقت ليسمع من الشيوخ والعلماء، فذهب إلى نيسابور وبلخ ومرو وهراة ومدن الحجاز وبغداد والكوفة والبصرة وواسط وعسقلان وحمص ودمشق وقيسارية كما حط رحاله في مصر.
5) صفات الإمام البخاري :
اتصف الإمام البخاري بالصلاح والورع والكرم والزهد وعفة اللسان والإيثار والبعد عن حب المال، بجانب اتصافه بالإخلاص والصدق والتواضع والسماحة والنبوغ وقوة الحفظ والإتقان، وكان رحمه الله كثير العلم والعبادة والإنفاق على الفقراء والمساكين، كما كان حريصاً على تحقيق المفهوم الصحيح للسنة النبوية.
6) مؤلفات الامام البخاري :
عكف الإمام أبو عبد الله على تأليف العديد من المصنفات مثل الجامع الصحيح الذي ضمَّنه أكثر من سبعة آلاف وخمسمائة حديث نبوي صحيح، بالإضافة إلى كتاب الأدب المفرد والمسند الكبير والفوائد والوحدان والعلل والمبسوط والتفسير الكبير وخلق أفعال العباد والكنى، وشملت مؤلفات الامام البخاري أيضاً كتاب التاريخ الكبير والتاريخ الأوسط والتاريخ الصغير والضعفاء الكبير والضعفاء الصغير.
7) محنة الامام البخاري :
ذُكر في قصة الإمام البخاري أنه تعرض لمحنتين، إحداهما اتهامه في مسألة هل القرآن مخلوق أم لا – وهي ذات المحنة التي تعرض لها أستاذه احمد بن حنبل رحمه الله -، أما محنة الامام البخاري الأخرى فكانت مع أمير بخارى خالد بن أحمد الذهلي الذي أمر بطرده من بلده.
ما هو منهج الإمام البخاري في صحيحه ؟
ترى ما المنهج الذي كان يتبعه الإمام البخاري في كتابه الجامع المسند الصحيح المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخرج لنا أصح كتاب بعد القرآن الكريم؟ ما المنهج الذي صار نموذجاً يحتذى به ويقاس عليه؟
يتلخص منهج الإمام البخاري في صحيحه في الأسس التالية:-
1) منهج البخاري في التخصص :
اعتمد الإمام البخاري في صحيحه على منهج الشمولية لا التخصص، فضمَّن كتابه الجامع شتى أنواع العلوم الإسلامية كـ اصول الفقه والتفسير والعقيدة والسيرة والمغازي والآداب والفضائل بيد أن السابقين دأبوا على التخصص في نوع واحد من العلوم، فنجد أن كتب الموطآت والسنن والجوامع ركزت على الأحكام الفقهية وكتب التفسير لم تتعرض إلا لعلم التفسير وهكذا.
2) شروط الإمام البخاري في الأسانيد :
كان يشترط الإمام البخاري أن تكون الأحاديث التي يخرجها في كتابه مستوفية لشروط الحديث الصحيح وهي ثقة الرواة والاتصال بينهم وبراءة الحديث من العلل والشذوذ، كما كان يشترط أن يكون رواة الأحاديث في صحيحه معروفين بالحفظ والإتقان وطول الملازمة للراوي المكثر، ولم يكن يكتفي بمعاصرة الراوي لمَن روى عنه بل كان حريصاً على إثبات الاتصال بينهما للتثبت من اتصال السند المعنعن.
3) منهجه في ترتيب الأحاديث :
كان أبو عبد الله يرتب الأحاديث في كتابه حسب الأغراض التي ساق الأحاديث لأجلها كبيان نسخ الأحكام والتنبيه على الزيادة في بعض الروايات وما إلى ذلك، وكان يورد حديثاً أو حديثين أو عدداً من الأحاديث للاستدلال على المسألة الفقهية الواحدة، كما كان يقدم الأحاديث ذات الأسانيد العالية على الأحاديث ذات الأسانيد النازلة في أغلب المواضع.
4) منهجه في الآثار الموقوفة :
أورد الإمام البخاري في صحيحه العديد من الأحاديث الموقوفة مما جاء في فتاوى الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين بهدف تقوية أحد آراء المذاهب الأربعة في المسائل الفقهية المختلف فيها بين الأئمة.
5) منهجه في تكرار الأحاديث :
اعتمد الإمام منهج التكرار في كتابة صحيحه، فعمد إلى تكرار أحاديث كثيرة في مواضع مختلفة بأسانيد مختلفة وألفاظ أخرى لإزالة الشبهة عن الناقلين وتفادي اختلاف عبارات الرواة وإخراج الأحاديث عن حد الغرابة.
6) منهجه في التعليق على الروايات :
يلاحظ تعليق وتعقيب الإمام البخـاري في صحيحه على بعض الروايات لشرح الغريب منها كما هو الحال في حديث العنزة حيث ذكر بعده توضيحاً لمعنى العنزة، كما كان يعلق توضيحاً للناسخ والمنسوخ ومختلف الحديث.
7) منهج أبو عبد الله في تراجم الأبواب :
قسم أبو عبد الله صحيحه إلى سبعة وتسعين كتاباً ثم قسم كل كتاب إلى عدد من الأبواب جعل لكل بابٍ منها عنواناً يدل على فحوى الأحاديث التي يتناولها، وتعرف هذه العناوين باسم التراجم وهي تتنوع ما بين تراجم ظاهرة تدل على المضمون دلالة واضحة وتراجم خفية – أو استنباطية – لتعيين الاحتمالات غير الواضحة لضمان الإحاطة بكل المعاني المحتملة، وهناك تراجم مرسلة غير معنونة وهي قليلة.
8) منهجه في المعلقات والمراسيل :
ذكرنا أن الإمام البخاري لم يخرج في صحيحه إلا الأحاديث ذات الأسانيد المتصلة، لكنه في التراجم – أو عناوين الأبواب – ساق بعض الأحاديث المعلقة والمرسلة لتحقيق بعض الأغراض كالتأكيد على صحة الحديث رغم وجود الخلاف من خلال إخراج الحديث الصحيح المتصل ثم الإشارة إلى المعلقات والمراسيل والشواهد فيكتسب النص قوة بعد إثبات صحته وصلاً ورفعاً.
وتجدر الإشارة إلى أن الأحاديث المعلقة – المعلقات – هي التي سقط منها راوٍ أو أكثر على التوالي وهي في صحيح البخـاري نوعان أحدها موصولاً في مواضع أخرى والآخر لا يوجد إلا معلقاً، أما الأحاديث المرسلة – المراسيل – فهي التي رفعها التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً وأسقط منها الصحابي أو صحابي وتابعي أو أكثر من هذا مما يدل على الانقطاع الذي يشجبه البخاري، لذا لم يخرجها وإنما ساقها في المتابعات.
ما أشهر الكتب التي تناولت شرح الجامع الصحيح ؟
عمد الكثير من أهل العلم إلى تقديم الشروحات المسهبة لما ورد في كتاب صحيح البخاري حرصاً على العلم وتقديراً للفكر وحباً للنبي عليه الصلاة والسلام وحفاظاً على آثاره، ومن أشهر الكتب التي تناولت شرحاً مستفيضاً لصحيح البخـاري كتاب الكواكب الدراري في شرح صحيح البخـاري للإمام الكرماني وكتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني وكتاب أعلام السنن للإمام الخطابي.
بالإضافة إلى كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري لـ ابن حجر العسقلاني وكتاب إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري للقسطلاني وأيضاً كتاب كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري لمحمد الخضر الشنقيطي وكتاب عون الباري لحل أدلة البخاري.
أين ومتى كانت وفاة الامام البخاري ؟
كانت وفاة الامام البخاري في إحدى قرى سمرقند الأوزبكستانية وقت صلاة العشاء في اليوم الأخير من شهر رمضان ليلة عيد الفطر عام 256 هـ بعد أن اشتد عليه المرض، وقد بلغ من العمر وقتذاك اثنين وستين عاماً، ويذكر أنه كان يدعو قائلاً ((اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك)).
هل تزوج البخاري ؟
لم يعرف المؤرخون هل تزوج البخاري أم لا لقلة الآثار الواردة في هذا الشأن، لكن يُذكر أنه قال لمحمد بن أبي حاتم ((لي جوار وامرأة وأنت عزب)) مما يدل على أنه كان متزوجاً، وفي السياق ذاته قال العجلوني ((لم أقف على أن البخـاري تزوج فضلاً عن وجود ولد له)).
هل صحيح البخاري صحيح ؟
يتساءل البعض هل صحيح البخاري صحيح والإجابة هي أنه أصح الكتب على الإطلاق وأجلها وأفضلها بعد كتاب الله، وقد أقر بذلك أئمة كبار مثل ابن تيمية والترمذي والحافظ النسائي والنووي والذهبي وغيرهم.
ما هو المذهب الفقهي الذي يتبعه البخـاري ؟
اختلف العلماء في مذهبه فأقر بعضهم باتباعه للمذهب الحنبلي ورأى البعض الآخر أنه يتبع المذهب الشافعي، فيما رجح فريق منهم عدم تقيده بأي من المذاهب الأربعة إذ هو إمام مجتهد وله مذهبه المستقل.