لله در إمامنا الترمذي رحمه الله، عكف على دراسة العلم الشرعي وتدريسه حتى فقد بصره، لكن الظلام لم يعرف طريقاً إليه لأن النور الذي شحذه طيلة حياته أضاء روحه وآنس عتمته، وكما قال شاعر الخضراء أبو القاسم الشابي ((النور في قلبي وبين جوانحي ** فعلامَ أخشى السير في الظلماء؟)).
نسب الترمذي ومولده :
يعود نسب الترمذي إلى قبيلة بني سليم العربية العدنانية، اسمه هو محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك السلمي البوغي الترمذي وكنيته أبو عيسى، سمي الترمـذي نسبةً إلى مسقط رأسه مدينة ترمذ الأوزباكستانية، وسمي البوغي نسبةً إلى قرية بوغ التي تبعد عن مدينة ترمذ مسافة ستة فراسخ والتي يُعتقد أنه ولد فيها، وعرف باسم الحافظ أبي عيسى الترمـذي الضرير.
كانت ولادة محمد بن عيسى في العقد الأول من القرن الهجري الثالث، وتشير معظم المصادر إلى أن ولادته كانت في عام 209 هجرياً تحت سماء مدينة ترمذ – وقيل في قرية بوغ التابعة لها – على ضفاف نهر جيحون الذي يعرف اليوم باسم نهر أموداريا، يعتقد البعض أنه ولد ضريراً لكن المتفق عليه من قِبل معظم العلماء – مثل ابن حجر العسقلاني وغيره – هو أن الترمذي ولد بصيراً ثم فقد بصره كبيراً بعد انكبابه الطويل على العلم.
نشأة الإمام الترمذي :
كانت نشأة الإمام الترمذي نشأةً طيبةً كريمة إذ تأثر بعلماء وأئمة عصره في بلاده وما جاورها ومَن وفد عليها خاصةً الإمام البخاري الذي لازمه وتتلمذ على يديه، بالإضافة إلى الإمام مسلم والإمام إسحاق بن راهويه والإمام أبي داود السجستاني وغيرهم الكثير من كبار العلماء، ومضى أبو عيسى محمد الترمذي يجوب البلاد ويأخذ العلم عن هذا الشيخ وذاك حتى أنه طرق أبواب كل المراكز العلمية المعروفة وقتذاك مثل العراق والحجاز إلا أنه لم يزر مصر والشام.
وقد امتاز الترمـذي بقوة الحفظ والضبط والإتقان والفهم العميق فبرع في علوم الفقه والحديث وذاع صيته وحظي بمكانةٍ رفيعة شهد له بها كل مَن عاصره ومَن أتى بعده وعاين أثره.
ما أبرز مؤلفات الإمام أبو عيسى ؟
أفرز الإمام محمد الترمـذي العديد من المؤلفات العظيمة التي كانت ولا تزال جزءاً من التراث العلمي الإسلامي، ومن أبرز مؤلفاته ما يلي:-
1) كتاب سنن الترمذي :
يعد أهل السنة والجماعة كتاب سنن الترمذي خامس كتب الحديث الستة، وأطلق عليه اسم السنن لأن غالبية الأحاديث التي تضمنها أحاديث الأحكام، كما عرف باسم الكتاب الجامع لاحتوائه على الأحكام والآداب والمناقب والعقائد والتفاسير وغير ذلك، وهو من أهم كتب الأصول وكتب الأمهات التي عنيت بنقل الأحاديث النبوية بأسانيدها الكاملة المتصلة بالرسول عليه الصلاة والسلام، واعتمد منهجه في هذا الكتاب على ما يلي:-
أ- استبعاد أحاديث الرواة شديدي الضعف.
ب- ذكر علل الحديث أي الأمور التي تطعن صحته.
جـ- ذكر الأحاديث المعلولة ثم الصحيحة لتوضيح علل المعلولة.
د- إخراج الأحاديث المرسلة والمنقطعة لا المتصلة فقط أي أنه تعرض لطبقة من الرواة لم يتعرض لها الشيخان.
هـ- الجرح والتعديل في رواة الأحاديث إذا استلزم الأمر ذلك.
و- الإهتمام بتوضيح معاني الألفاظ الغريبة الواردة في الأحاديث.
ز- كتابة الفوائد المستنبطة من الحديث بعد إيراده.
حـ- تقسيم الكتاب إلى أبواب ذات عناوين فقهية مختلفة يُستدل من خلالها على المضامين.
ومن مميزات سنن الترمذي حسن الترتيب وعدم تكرار الأحاديث وتسليط الضوء على المذاهب الأربعة الفقهية ووجوه الاستدلال، بالإضافة إلى بيان الحكم على الحديث وتوضيح الحسن والصحيح والغريب والضعيف والمعلل وغير ذلك، إلى جانب ذكر أسماء الرواة وكناهم وألقابهم وفوائد عديدة أخرى، ولأهمية هذا الكتاب حرص لفيف من العلماء على تناوله بالشرح مثل أبو بكر بن العربي المالكي ومحمد بن يوسف البنوري وعبد الرحمن المباركفوري ورشيد بن أحمد الكنكوهي وجلال الدين السيوطي وثناء الله المدني.
2) كتاب الشمائل المحمدية :
ضمن الكتب التي ألفها الإمام الترمـذي رحمه الله كتاب الشمائل المحمدية المعروف اختصاراً باسم شمائل الترمذي، وهو أحد كتب السيرة النبوية التي تحدثت عن أوصاف النبي عليه الصلاة والسلام وأحواله وأخلاقه وآدابه وألقت الضوء على العديد من مواقف حياته وصولاً إلى وفاته، واحتوى الكتاب على نحو 397 حديثاً تم توزيعها على خمسة وخمسين باباً، ومن هذه الأبواب باب ما جاء في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وباب ما جاء في شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3) كتاب العلل الصغرى :
ختم الترمذي كتابه الجامع بكتاب العلل الصغرى، وهو كتاب صغير تناول المصادر التي اعتمدها الإمام الترمـذي في كتاب السنن إلى جانب رجاله ومصطلحاته، ورغم أنه لم يكن الكتاب الأول من نوعه في مجال علم مصطلح الحديث إلا أنه كان الأتم والأكمل والأشمل.
4) كتاب العلل الكبرى :
يختص هذا الكتاب بعلل الحديث، وهو كتاب مستقل عن كتاب العلل الصغرى الملحق بالكتاب الجامع، وساق الترمذي في هذا الكتاب عدة أحاديث وأوضح أسانيدها وأعقبها بالحكم على هذه الأحاديث بناءً على رأيه الشخصي أو آراء مشايخه لا سيما الإمام البخاري الذي نقل عنه الكثير في هذا المصنف، وقد حوى كتاب العلل الكبرى على نحو أربعمائة وأربعة وثمانين حديثاً.
5) مؤلفات الترمذي الأخرى :
أشار بعض أهل العلم مثل ابن كثير وابن حجر وابن النديم إلى وجود مؤلفات أخرى للإمام الترمذي غير أن معظمها لم يطبع ولم يعثر عليه، ومن ذلك كتاب التفسير وكتاب أسماء الصحابة وكتاب التاريخ وكتاب الأسماء والكنى وكتاب الزهد، إضافةً إلى الكتاب الذي ذكره أبو عيسى بنفسه في كتابه الجامع وهو كتاب في الآثار الموقوفة.
ما أهمية كتاب سنن الترمذي ؟
تتجلى أهمية كتاب سنن الترمذي المعروف باسم كتاب الجامع الكبير في أنه احتضن معظم الأدلة والأحكام الفقهية الواردة في كتب السنن الأخرى مثل كتاب سنن النسائي وابن ماجه وأبي داود إلى جانب ما ورد في الصحيحين صحيح البخاري ومسلم وهو ما يعني انطوائه على العلم الغزير إلا النزر اليسير.
وقد قيل عن الكتاب الجامع ((ليس فيهم مثل كتاب أبي عيسى حلاوة مقطع، ونفاسة منزع، وعذوبة مشرع، وفيه أربعة عشر علماً، وذلك أقرب إلى العمل وأسلم، أسند، وصحح، وضعف، وعدد الطرق، وجرح، وعدل، وأسمى، وأكنى، ووصل، وقطع، وأوضح المعمول به، والمتروك، وبين اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره، وذكر اختلافهم في تأويله))، كما أن الترمذي أشاد بكتابه قائلاً ((مَن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم)).
والجدير بالذكر أن بعض أهل العلم فضَّل كتاب الترمذي على كتب الشيخين البخاري ومسلم لأن كتابه مبسط يصل إلى فائدته كل أحد وليس المتبحر في العلم فقط.
تلامذة الإمام محمد أبو عيسى :
تتلمذ على يد الإمام محمد الترمذي طلابٌ كثر منهم على سبيل الذكر لا الحصر الربيع بن حيان الباهلي وأبو بكر بن إسماعيل السمرقندي وأبو سعيد الهيثم الشاشي وأبو العباس محمد المحبوبي المروزي واﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﻳﻮﺳﻒ اﻟﻔﺮﺑﺮﻱ وﺃﺑﻮ ﻋﻠﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻳﺤﻴﻰ اﻟﻘﺮاﺏ اﻟﻬﺮﻭﻱ وغيرهم.
وفاة الإمام الترمذي :
توفي الإمام الترمذي ليلة الثالث عشر من شهر رجب – وقيل من شهر صفر – في العام الهجري الـ 279 وعمره آنذاك سبعون عاماً، وقد وافته المنية في مسقط رأسه مدينة ترمذ التي إليها ينسب – وقيل في سمرقند -، ومات كفيفاً.
هل الترمذي عربي ؟
يتساءل البعض هل الترمذي عربي والإجابة هي لا، الترمذي ليس عربياً لأنه ينتمي إلى قرى ترمذ الأوزباكستانية، لكنه ينحدر من أصول عربية لأن نسبه يرجع إلى قبيلة بني سليم العربية.
كم عدد أحاديث سنن الترمذي ؟
بلغ عدد أحاديث سنن الترمذي في كتابه الجامع الصحيح 3956 حديثاً نبوياً، ولم يكتفِ أبو عيسى بسرد الأحاديث بل حرص على توضيح درجة الأحاديث من حيث الصحة والضعف.
ما هو سبب تأليف سنن الترمذي ؟
ذكر الإمام في كتابه الجامع سبب تأليف سنن الترمذي فقال ((وإنما حملنا على ما بينا في هذا الكتاب - أي الجامع- من قول الفقهاء وعلل الحديث لأنا سئلنا عن هذا فلم نفعله زماناً، ثم فعلناه لما رجونا فيه منفعة الناس)).
ماذا قيل عن الإمام الترمذي ؟
مما قيل عن الإمام الترمـذي إنه أحد الأئمة المقتدى بهم في علم الحديث وإنه كان متفوقاً على الأقران وآية في الحفظ والإتقان، كما قيل إنه ضمن الأئمة الستة الذين حرسوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحت كتبهم في عالم السنة هي الأصول المعتمدة في الحديث.