لأجله بعِثَت الرسل الكرام، وأنزِلَت الكتب على الأقوام، وخُلقت الجنة وسعِّرت النيران، هو الأصل في البشرية، والأساس الذي ترتكز عليه كل الشرائع السماوية، إنه التوحيد يا سادة، أصل الدين والعبادة، الغاية التي خُلق الثقلان لتحقيقها، والرسالة التي كرس الأنبياء أعمارهم لإبلاغها، هو النفي والإثبات، والعقيدة التي ينبغي العيش في كنفها من الميلاد حتى الممات، ربما تكون كلمة التوحيد مألوفة، وفي أذهاننا حاضرة ومعروفة، لكن حقيقتها عنا غابت، فاهتزت عقيدتنا وانتكست فطرتنا وخارت إرادتنا وذهبت عزَّتنا وتخبطت أفئدتنا وحارت!
ما هو تعريف التوحيد ؟
بالبحث عن تعريف التوحيد في اللغة العربية نجد أنه جعل الشيء واحداً غير متعدد، فالجذر الذي تنبثق منه كلمة التوحيد هو ((وحَّد))، وهي لفظة تحمل في طياتها معنى الانفراد وشدِّد أوسطها دلالة على المبالغة في الانفراد، وقد اعتادت العرب على قول ((واحد)) و((أحد)) و((وحيد)) بمعنى المنفرد.
أما المعنى الاصطلاحي للتوحيد فهو إفراد الله سبحانه وتعالى بكل ما يختص به من الأقوال والأفعال والصفات، أي اعتقاد أن الله واحد لا شريك له ولا شبيه لذاته أو أسمائه أو صفاته، والموحد هو المقر بوحدانية الله عز وجل، وبالرجوع إلى القرآن الكريم نجد الإشارة إلى هذا المعنى في مواطن عديدة، فمن ايات التوحيد قوله ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ))، وقوله ((قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ))، وأيضاً قوله ((وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ)).
ولا يتحقق التوحيد إلا بتحقيق ركنيه النفي والإثبات، أما النفي فهو نفي الألوهية عن غير الله، وأما الإثبات فهو إثبات العبادة لله وحده، وهو ما تشير إليه كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله))، إذ إن معناها لا معبود بحق إلا الله، فهي تثبت الإيمان بالله وتؤكد الكفر بالطاغوت وتظهر البراءة من الشرك.
ما هي انواع التوحيد ؟
صنف أهل السنة والجماعة التوحيد إلى ثلاثة أنواع بناءً على الأدلة الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وفيما يلي نبذة موجزة عن انواع التوحيد الثلاث:-
1) توحيد الربوبية :
النوع الأول هو توحيد الربوبية المشتق من كلمة ((الرب))، ومعناه إفراد الرب بالخلق والملك والرزق والتدبير، أي الإقرار بأن الله تعالى هو الخالق المالك الرازق المحيي المميت المصرف لشئون الكون، وهذا يعني أن توحيد الربوبية متعلق بالأمور الكونية، ولم ينكر الكفار والمشركون هذا النوع من التوحيد بل أقروه وآمنوا به، فهم يقرون ويؤمنون بأن الله هو خالق الكون ومالكه ومدبر شئونه، ((وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ))، لكن الإقرار وحده لا يكفي لسلامة العقيدة، ولا ينجي من العذاب.
2) توحيد الالوهية :
النوع الثاني هو توحيد الالوهية المشتق من كلمة ((الإله))، فهو التأله لله القائم على المحبة والتعظيم، ويعني إفراد الله تعالى بكل أشكال العبادة الظاهرة والباطنة كـ الصلاة والدعاء والنذر والاستعانة والاستعاذة والتوكل وغير ذلك، لذا يسمى توحيد العبادة كونه يتعلق بالأوامر والنواهي الشرعية التي يتعبد العباد بها، كما يسمى توحيد الطلب والقصد إذ لا يطلب العباد ولا يقصدون إلا وجه الله تعالى مخلصين لله الدين.
وهذا النوع تحديداً هو ما واجهه الكفار بالصد والتكذيب، وهو سبب إرسال الرسل وتنزيل الكتب وتشريع الشرائع ووقوع الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم، قال تعالى ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كلِّ أمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ)).
3) توحيد الأسماء والصفات :
النوع الثالث من أقسام التوحيد هو توحيد الأسماء والصفات، والمقصود به الإيمان بكل أسماء الله وصفاته التي وردت في القرآن الكريم أو السنة النبوية من غير تحريف أو تعطيل أو تمثيل أو تكييف، ويقوم على دعامتين إحداهما الإثبات من خلال إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء الحسنى وصفات الكمال، والأخرى التنزيه من خلال تنزيه الله عن الأسماء المعيبة والصفات الناقصة التي نفاها عن نفسه، وتنزيهه عن مماثلة أي من خلقه، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ)).
العلاقة بين أقسام التوحيد :
العاقة بين توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات هي علاقة تكاملية، فلا يصح الإيمان ببعضها والكفر بالآخر وإلا فسد التوحيد كله، إذ لا يجزئ الإيمان بتوحيد الربوبية عن الإيمان بتوحيد الألوهية، ولا يجزئ الإيمان بتوحيد الألوهية عن الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات، وهكذا، فمتى ما تسرب الخلل إلى أي من أقسام التوحيد صار التوحيـد برمته مختلاً.
ما هي اهمية التوحيد ؟
تتجلى اهمية التوحيد في كونه الغاية التي خلِق الإنس والجن من أجلها إذ يقول الله عز وجل ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ))، كما أنه الفطرة السوية التي جبل الله الخَلق عليها، فالإنسان يميل بفطرته إلى إفراد الله بالربوبية والألوهية ما لم يدنس عقله بالوساوس والأفكار الشركية، ولهذا بعث الله الرسل والأنبياء كي يقوِّموا ما اعوج ويصوِّبوا ما انحرف من الفطرة المستقيمة السليمة، أضف إلى ذلك أن التوحيـد شرط لحصول النصر والتمكين، وشرط للتنعم بالأمن والاستقرار، وشرط لدخول الجنة والنجاة من النار.
ما هي مراتب تحقيق التوحيد ؟
أشار القرآن الكريم إلى مراتب تحقيق التوحيد في الآية الثانية والثلاثين من سورة فاطر، حيث يقول الله عز وجل ((ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ))، فالمرتبة الأولى هي مرتبة تحقيق الواجب، وهي مرتبة المقتصدين التي أشار لها القرآن بـ ((وَمِنْهُم مقْتَصِدٌ))، وتتحقق بالإخلاص لله تعالى والابتعاد عن الشرك بنوعيه الأكبر والأصغر مع الإتيان بواجبات التوحيـد ومجانبة البدع المحرمة والمعاصي التي تقدح التوحيـد.
أما المرتبة الثانية فهي مرتبة تحقيق المستحب، وهي مرتبة السابقين المقربين، وتتحقق بتحقيق الأمور التي أسلفنا ذكرها في المرتبة السابقة، مع الإتيان بالأمور المستحبة ومجانبة الأمور المكروهة، فهذا من كمال التوحيد وهو ما أشار له القرآن بـ ((وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ)).
ثمرات التوحيد وآثاره في الدنيا والآخرة :
للتوحيـد الخالص ثمرات يجنيها الموحدون في الدنيا والآخرة، نذكر منها ما يلي:-
1) تحرير الإنسان :
التوحيد يحرر الإنسان من الخضوع للمخلوقات والأشياء التي لا تملك نفعاً ولا ضراً، يحرره من العبودية لكل ما سوى الله الذي خلقه فسواه، يحرره من الخرافات والخزعبلات والأوهام، يحرره من الذل والاستسلام، لذا كان الطغاة والمتجبرون هم ألَد أعداء الأنبياء، فهم يدركون أن الدعوة إلى الله تعني تحرير البشر من العبودية وإسقاط عروش تألههم المزعوم، وهو ما اتضح في قصة فرعون مع بني إسرائيل.
2) تكوين الشخصية المتزنة :
يساعد التوحيد الخالص على تكوين الشخصية المتزنة، فالموحد يدرك وجهته، يعرف غايته، لديه طريق واضح محدد لا يحيد عنه، ليس له إلا إله واحد يدعوه في السراء والضراء، يعرف ما يرضيه ويسخطه، لذا ينعم بالاستقرار والاتزان، بخلاف الكافر الذي لا وجهة له، والمشرك الذي تشتت بين المعبودات، وتوزع بين الآلهة، فهذا يوجهه نحو الشرق وذاك نحو الغرب، ليقضي حياته غير متزن وغير مستقر، ((أَأَرْبَابٌ متَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)).
3) التوحيد مصدر للأمن وطمأنينة النفس :
جبل الإنسان على الخوف، الخوف على النفس، الخوف على الرزق، الخوف على الأبناء، الخوف على الأهل، الخوف من الإنس، والخوف من الجن، الخوف من الموت، والخوف من المجهول، لكن التوحيـد يبدد كل مشاعر الخوف والقلق التي تستبد بالإنسان، فهو يمده بجرعات كبيرة من الطمأنينة والأمان، لذا يأمن الموحد إذا فزع الناس، ويطمئن إذا قلقوا، ويهدأ إذا اضطربوا.
وفي هذا السياق يقول الله عز وجل في الآية رقم 82 من سورة الأنعام ((ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مهۡتَدُونَ))، أي أن التوحيـد يضمن للموحدين التنعم بالأمن في الدنيا والآخرة، وعندما ساق القرآن قصة سيدنا ابراهيم عليه السلام مع قومه العاكفين على عبادة الأصنام قال على لسانه ((فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ)).
4) التوحيد مصدر القوة :
الموحد يتوكل على الله تمام التوكل، يثق به ويرجوه، لا يمد يده إلا إليه ولا يسأل غيره، يوقن أن الله هو الخالق الرازق المدبر القادر على جلب الخير وكشف الضر، يستمد منه القوة ليمسي كالجبال الراسخات، فلا تؤثر به النوازل ولا تزعزعه الحوادث ولا تزحزحه الكوارث، يرضى بقضاء الله ويستغني به عن كل ما سواه، لذا يتمتع بنفس واثقة قوية وروح شامخة أبية لا تعرف الضعف ولا الهوان ولا الاستكانة، ((وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ)).
5) حصول الأجر والفوز بالجنة :
أخيراً، التوحيد يضمن لأصحابه حصول الأجر والثواب في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة، ففي صحيح الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((مَن لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة)).
مفاسد الشرك وأضراره :
الشرك نقيض التوحيـد، وحقيقته كما ذكرها الشيخ عبد الرحمن السعدي ((أن يعبَد المخلوق كما يعبَد الله، أو يعظَّم كما يعظَّم الله، أو يصرَف له نوع من خصائص الربوبية والألوهية))، فالشرك لا يقتصر على عبادة غير الله، بل يشمل الرياء والتطير والتكبر وغيرها من الأمور الشركية التي نغفل عنها كوننا لا نعرف ماهو الشرك الاصغر المعروف بالشرك الخفي، وللشرك مفاسد كثيرة، وأضرار عديدة، نذكر منها ما يلي:-
1) الشرك ظلم عظيم :
الشرك يجمع على الإنسان كل أنواع الظلم، ظلم بينه وبين ربه إذ اتخذ إلهاً غيره وابتغى دونه رباً وحكماً، كما أنه ظلم بين الإنسان ونفسه إذ تنازل عن حريته وجعل نفسه عبداً لدى مَن هو مثله أو دونه، إضافة إلى ما به من ظلم للغير، فمَن أشرك بالله غيره فقد ظلمه وحباه حقاً ليس حقه، أما التوحيـد فهو تمام العدل.
2) الشرك مصدر للمخاوف :
المشرك يعيش في أجواء يسودها الخوف والرعب والتشاؤم وعدم الاطمئنان، وعن هذا يقول الله تعالى ((سَنلْقِي فِي قلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ ينَزِّلْ بِهِ سلْطَاناً))، ويتأتى ذلك من تصديق الخرافات والانسياق خلف الأباطيل والعيش في كنف الأوهام التي ينشرها الكهنة وسدنة الآلهة المزعومة.
3) الشرك معطل للإيجابية :
بخلاف التوحيـد الذي يدفع بأصحابه نحو التقدم ويحثهم على إعمار الأرض، يعطل الشرك الإنسان عن القيام بالأعمال النافعة، يعطل إيجابيته ويعرقل إنتاجه ويجعله عاجزاً عن الاعتماد على نفسه، يعلمه التواكل والاتكال فيلجأ إلى الشفعاء والوسطاء ويستمر في ارتكاب الموبقات واقتراف الآثام ظناً منه أن الآلهة المزعومة ستشفع له.
4) دخول نار جهنم :
علاوةً على آثار الشرك في الحياة الدنيا، يحصد المشرك أكبر ضرر للشرك في الآخرة وهو الحرمان من الجنة واستحقاق العذاب في نار جهنم، وصدق المولى عز وجل إذ قال ((إِنَّهُ مَن يشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ)).
ما هي شروط التوحيـد ؟
تتلخص شروط التوحيد في العلم المنافي للجهل واليقين المنافي للجهل والقبول المنافي للرد والانقياد المنافي للترك والإخلاص المنافي للشرك والمحبة المنافية للبغض والصدق المنافي للكذب.
ما فائدة تعلم التوحيد ؟
تكمن فائدة تعلم التوحيد في الإحاطة بجوانبه كافة للحفاظ على سلامة العقيدة والابتعاد عن السبل المفضية إلى الوقوع في الشرك كالتوسل بالصالحين وغير ذلك.
ما هي أركان التوحيـد ؟
للتوحيد ثلاثة أركان، الركن الأول هو اعتقاد القلب المتعلق بالعبادات القلبية، والركن الثاني هو قول اللسان المتعلق بالعبادات القولية، والركن الثالث هو عمل الأعضاء المتعلق بالعبادات الفعلية.
ما أهم الكتب التي تتناول علم التوحيد ؟
من أهم الكتب التي تتناول علم التوحيـد كتاب أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة لابن عثيمين، وكتاب التوحيـد لمحمد بن عبد الوهاب، بالإضافة إلى مجموعة العقيدة بأجزائها لعمر الأشقر وكتب ابن تيمية.