((ليتنا نفهم أن جميع العلاقات خُلقت للراحة والرحمة))، خُلقت للدعم والمساندة، خُلقت لنجد كتفاً نلقي عليه رأسنا عندما تثقله الهموم، ويداً نتشبث بها عندما نغرق، وحضناً نرتمي به عندما تضيق علينا الأرض بما رحبت، أما العلاقات السامة التي تستنزفنا وتؤثر بالسلب على صحتنا النفسية وتحيلنا إلى أعجاز نخلٍ خاوية فهي تتنافى مع الحكمة من وجود العلاقات، الحكمة التي بيَّنها الله تعالى في كتابه العزيز فقال ((لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ))، وقال ((سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ))، كما قال ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ)).
بداية مصطلح العلاقات السامة :
لا يمكننا القول أن العلاقات السامة وليدة العصر الحديث فالعلاقات البشرية مذ بدء الخليقة تنقسم إلى علاقات إيجابية صحية وعلاقات سامة غير صحية، لكن وصف العلاقات غير الصحية بهذا المصطلح لم يتم تداوله إلا بعد إقدام الصحفية الطبيبة الأمريكية ليليان غلاس على نشر كتابها الذي حمل عنوان ((الأشخاص السامُّون Toxic People)) في عام 1995 م، فوضحت ليليان بين دفتي الكتاب أن العلاقات السامة هي العلاقات التي تبنى على المنافسة والصراع وتهدف إلى سيطرة أحد الأشخاص على الشخص الآخر.
وفي الآونة الأخيرة ازداد الوعي في المجتمعات وكثر الحديث عن العلاقات السامة وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بمئات المنشورات والتغريدات والتعليقات التي تدور حول الأشخاص ((التوكسيك)) والتي تتراوح بين الجد والهزل، بين التوعية والفكاهة، وهو ما جعل الكثير يتساءل ماهي العلاقة السامة – التوكسيك -؟
ماهي العلاقة السامة ؟
تعرَف العلاقة السامة في علم النفس بأنها كل علاقة لا تقوم على الاحترام ولا تهدف إلى الدعم، بل يعمد فيها أحد الطرفين إلى تقويض الطرف الآخر والسيطرة عليه، وبمعنى آخر يمكننا القول أن العلاقة السامة هي كل علاقة تنطوي على أنماط غير صحية تهدد السلامة النفسية لأحد الطرفين، وعادةً ما يكون هذا النوع من العلاقات مصحوباً بالانتقاد اللاذع والتجاهل المؤذي والنرجسية المقيتة، وقد يصل الأمر إلى العنف الجسدي.
وفي هذا السياق تقول الأخصائية الاجتماعية إيفونا كاستايندا ((العلاقة السامة ترتبط بشخص يوجه لك الاتهامات دائماً وتحاول بشدة الدفاع عن نفسك، ولكن ذلك لا يجدي نفعاً مع شخص يوجهك للابتعاد عنه ونتيجة لذلك تشعر أنك مذنب وأنك شخص سيء ولا تستحق هذه العلاقة)).
ما أنواع العلاقات السامة ؟
للعلاقات السامة صور متعددة، فهي لا ترتبط بصورة واحدة ولا تلزم نمطاً محدداً، وفيما يلي نبذة عن أنواع العلاقات السامة الأكثر شيوعاً:-
1) الصداقة السامة :
عندما تقرأ الاسم تعتريك الدهشة، تشعر بـ ((error)) كما يقولون، تتساءل كيف تجتمع الصداقة مع السُّمية؟ كيف توصف الصداقة بالأذية؟ كيف تأتي الطعنة من المواطن التي يفترض بها أن تكون المواطن الأكثر أماناً على وجه الكرة الأرضية؟
ربما يصعب على عقولنا تصور ذلك لكن الحقيقة أن الصداقة السامة واحدة من أكثر صور العلاقات السامة شيوعاً، فالصديق السام هو الصديق الذي يتعمد إزعاج صديقه بالسلوكيات التي تثير ضجره، يختلق المواجهات الدفاعية وتغلب عليه الأنانية والروح التنافسية، يكثر اللوم ولا يظهر التعاطف ولا يحترم الحدود ولا يقدم الدعم ولا يصغي إلى المشكلات ويتفنن في تحطيم المعنويات، يحسد على الأفراح ولا تظهر عليه أمارات البِشر عند إحراز التقدم والنجاح.
يقول المعالج النفسي كورت سميث ((في حال أدركت أن صديقك يثقل كاهلك بمشاكله ولا يكلف نفسه عناء مساعدتك ويتحدث فقط عن نفسه، فقد حان الوقت لإعادة التفكير في علاقتك معه)).
2) العلاقة السامة في العائلة :
يفترض أن يكون جيش المرء عائلته، لكن في بعض الأحيان تكون العائلة هي مصدر الأذى، فتصبح علاقة المرء بعائلته واحدة من العلاقات السامة التي تستنزفه وتؤثر عليه سلباً، وفي هذا الصدد تقول المعالجة النفسية جوستين كارينو ((الأسرة التي لا تجيد الحوار بين أفرادها، أو التي لا تستطيع فيها أن تتواصل وتعبر عن نفسك بشكل حر وآمن، هي بالتأكيد أسرة مؤذية – سامة -)).
فالعائلة السامة هي العائلة التي تفتقر إلى التواصل السليم وتسرف في الانتقاد وتمارس العنف بشتى صوره ولا تحترم الخصوصية، تجيد التحكم المفرط وتعمد إلى مقارنة أفرادها بالآخرين ولا تشعر بالرضا عنهم، تتفنن في الاهمال والتحقير وتبخل في بذل مشاعرها فيعاني أفرادها من الجوع العاطفي.
3) العلاقة السامة في الزواج :
ربما لا ينبغي التطلع إلى الظفر بعلاقة زوجية مثالية خالية من الخلافات أو الاختلافات، لكن في الوقت ذاته لا ينبغي التنازل عن الحد الأدنى من الاحترام والاستقلالية والسعادة والراحة والأمان، وإلا تحولت العلاقة الزوجية إلى صورة من صور العلاقات السامة المؤذية، وانتفى عنها أهم مقاصد النكاح المودة والرحمة.
وتتسم العلاقة السامة في الزواج باتصاف أحد الشريكين أو كليهما بالأنانية والنرجسية وتعمد الأخذ دون العطاء وتكرار ((أنا)) لا ((نحن))، إلى جانب الشعور بالاستنزاف وانعدام الثقة وتفشي الأجواء المعادية وغياب التقدير والاحترام وكذلك التوقف عن القيام بالتصرفات المعبرة عن الحب وعدم مشاركة الأخبار السعيدة والميل إلى القرارات الفردية وبث الإحباط، كما أن مواجهة الصعوبات المستمرة في العلاقة الحميمية دون تفهم واهتمام يضر بـ الحياة الزوجية ويحيل علاقة الشريكين إلى علاقة سامة.
4) العلاقة السامة في العمل :
لا تقتصر العلاقات السامة على محيط العائلة والأصدقاء والأزواج، بل تمتد لتصل إلى بيئة العمل أيضاً، فالزميل السام في العمل هو الذي يتفانى في إثبات أهمية الدور الذي يقوم به دوناً عن بقية زملائه ويسعى دوماً لأن يكون مركز الاهتمام وبطل الرواية، يقوض قدرات الآخرين وينشر الفتنة بينهم ويكثر من القيل والقال، يميل إلى الشكوى ويستنزف طاقة مَن حوله بتذمره واستيائه.
وفي هذا الصدد يقول ياسر نواز – منتج المحتوى الرقمي في pure VPN – ((الزملاء السامون يستنزفون طاقتك، وهم مصدر دائم للتثبيط في العمل، أسوأ جزء هو أنك قد لا تدرك أنك بصحبة زميل سام حتى فوات الأفوان))، كما يقول هانس هانسن – مؤسس الشركة الإسكندنافية بيلاو يوور بالت – ((الناس إما يلهمونك أو يستنزفونك، لذلك اختر المحيطين بك بعناية)).
ما هي علامات العلاقة السامة ؟
عندما تظهر اعراض التسمم الغذائي ندرك أن أجسادنا تعاني من حالة مرضية نتيجة تناول الأغذية الملوثة، وعندما تظهر علامات العلاقة السامة نتيقن أن أرواحنا تعاني من حالة مرضية نتيجة مخالطة الشخصيات المؤذية – التوكسيك -، وفيما يلي موجز لأهم العلامات التي تنذر بوجود علاقة سامة:-
1) الشعور المستمر بالتعاسة والمعاناة من نوبات القلق والغضب والاكتئاب.
2) الاضطرار إلى التضحية بالاحتياجات النفسية من أجل نيل رضا الطرف الآخر.
3) نشوب الخلافات والصراعات بصفة متكررة وتلاشي قيم الاحترام.
4) محاولة عزل أحد الطرفين للآخر وإبعاده عن الأهل والأصدقاء.
5) إكثار الطرف السام من اللوم والتلاعب بالأحداث مع إفراطه في الغيرة والشكوك.
6) الافتقار إلى الدعم النفسي والشعور بالإحباط.
7) المعاناة من النقد والتوبيخ والصراخ والسخرية والإيذاء الجسدي.
8) المعاناة من التجاهل والحقد والأنانية والنفاق والخداع.
9) تدني الثقة بالنفس والشعور بالذنب دون مبرر.
10) استنزاف الطاقة وعدم الشعور بالراحة والحرية عند التعامل مع الطرف السام.
مضاعفات العلاقات السامة :
عندما نتجاهل الأعراض المصاحبة للأمراض الجسدية أو نفشل في السيطرة عليها تدخل في طور التفاقم على هيئة مضاعفات خطيرة، والأمر ذاته عندما نتجاهل علامات العلاقات السامة ولا ننجح في قمعها، حيث تتحول العلامات البسيطة إلى أشباح خطيرة تقتات على أرواحنا فلا تبقي فيها ولا تذر، وتتجلى أبرز هذه المضاعفات فيما يلي:-
1) المعاناة من الشعور الدائم بالنقص والإحباط.
2) الخوف من الدخول في علاقات جديدة.
3) ضعف الإنتاجية سواء في الدراسة أو العمل وانعدام القدرة على تحمل الضغوطات.
4) زيادة احتمالية الإصابة بالأمراض الجسدية كأمراض القلب والجهاز الهضمي.
كيف تتعافى من العلاقات السامة ؟
قد نصاب بالصدمة لدى اكتشافنا أننا مصابون بأحد الأمراض الجسدية، لكن ينبغي تجاوز شعور الصدمة سريعاً للبدء في اتخاذ إجراءات العلاج والتعافي، لنركز على الجانب الإيجابي وهو اكتشافنا للمرض قبل أن يفتك بنا!
ليس سهلاً أن نواجه أنفسنا بحقيقة الأمر ونعترف بسُمِّية العلاقة التي تجمعنا بأحد الأشخاص، ستغتالنا الأفكار المزعجة بلا شك، وسنصبح مذبذبين بين قرار البقاء والرحيل، سنتألم، حتماً سنتألم، لكن لا ضير أن نتألم قليلاً في سبيل أن نحيا بشكل أفضل ووعي أكبر فيما تبقى من العمر بعد أن تعلمنا من الدرس.
كيفية التعامل مع العلاقات السامة :
تتمثل كيفية التعامل مع العلاقات السامة والتعافي منها في الخطوات التالية:-
1) اتبع مشاعرك وراقب انفعالاتك، إذا اكتشفت علامات واضحة فلا تتجاهلها بحجة أن الأيام الجيدة تغطي على الأيام السيئة.
2) حاول التغيير ما أمكن، واعترف أمام نفسك أنك بذلت كل ما في استطاعتك لمحاولة تحسين الأمور.
3) تذكر أن سلامتك النفسية خط أحمر، فلا تسمح بتهديدها أو الاعتداء عليها.
4) تخلص من العلاقات السامة نهائياً بشكل حاسم ولا تدخل في حلقة الانفصال والعودة.
5) بعض العلاقات السامة يصعب قطعها بشكل نهائي كالعلاقات التي تكون في إطار العائلة أو العمل، هنا ينبغي التيقظ ووضع سياج الأمان بحكمة وذكاء.
6) احصل على الدعم من أشخاص موثوقين، أبقهم بقربك واسمح لهم بالاطلاع على ما يدور بخلدك ولا تبقى وحدك.
7) لن تتعافى بين ليلةٍ وضحاها، امنح نفسك الوقت الكافي للتجاوز واطلب المساعدة من أحد المختصين إذا لزم الأمر.
8) ركز على نفسك ولا تقسُ على ذاتك بل أغدقها بالحب والرعاية.
ما دوافع البقاء في العلاقات السامة ؟
من دوافع البقاء في العلاقات السامة الشعور بالذنب والمسئولية وتدني تقدير الذات وتوهم الاحتياج للشخص السام بسبب وجود الأطفال أو حفاظاً على العِشرة أو مخافة الوحدة، بالإضافة إلى التأثر ببعض الأنماط غير الصحية التي تم الانخراط بها منذ الطفولة فيتم تكرارها بشكل غير واعٍ.
هل تؤثر العلاقة السامة على الصحة البدنية ؟
نعم، أجرت جامعة ميشيغان البحثية الأمريكية دراسة علمية عام 2016 م أكدت نتائجها أن العلاقات السامة تؤثر بالسلب على صحة القلب والأوعية الدموية على المدى البعيد، كما أن الضغط النفسي يؤدي إلى تعطيل الخلايا العصبية في منطقة قرن آمون بالدماغ.
ما سبب الانجذاب للعلاقات السامة ؟
من أسباب الانجذاب للعلاقات السامة الاتصاف بحساسية المشاعر، والنشأة في كنف أبوين تربطهما علاقة غير صحية، والسعي الدائم لإصلاح الآخرين تحت شعار ((I can fix him))، كما أن الشخصية النرجسية السامة تلجأ للاستراتيجية الرومانسية مما يوهم الطرف الآخر بالوقوع في الحب.
بم يتسم المتسببون في العلاقات السامة ؟
ذكرت إليزابيث سكوت - أستاذة علم النفس والإرشاد الأسري في جامعة سان دييغو - أن معظم المتسببين في العلاقات السامة يتسمون بالمعاناة من أحد الاضطرابات النفسية كالاضطراب ثنائي القطب أو النرجسية أو الاكتئاب الشديد.