وصف المقامات الموسيقية وفقًا لتأثيرها العميق على النفس البشرية، فاتخذ من أحد مقاماتها دواءً للشعور بالراحة والهدوء بعيدًا عن تكدس الهموم، إنه لمؤسس الفلسفة الإسلامية أبو نصر محمد الفارابي الذي عالج الأمراض النفسية بالإيقاعات الصوتية.
مَن رسم للنهضة الفكرية العربية مسارًا مشرقًا
اختُلف في تعيين أصل منبته كما هو الحال في مسقط رأسه، كان عام 260 هـ شاهدًا على ميلاده، إنه لأحد الفلاسفة العظماء أبو نصر محمد… بن طرخان الفارابي التركي، الذي ولد في مدينة فاراب أو كما تُعرف أوترار مثلما أخبرنا أكثر الباحثين، وبين طيات السطور التالية سنكمل سردنا لـ قصة ملخصة عن الفارابي مؤسس الفلسفة الإسلامية.
عاش الفارابي حياةً تنقليةً كغيره من محبي العلوم الذين ظلّوا يرتحلون من بلد إلى آخر، فترعرع في مدينة السلام (بغداد) ثم ارتحل إلى أرض الكنانة (مصر) ومنها هاجر إلى الدار المسقية (دمشق) سنة 943م والتي اتخذ منها ملاذًا آمنًا ومقطنًا جميلًا قد سكن به حتى احتضنت المقابر لجثمانه الطاهرة.
إبحار الفيلسوف الجليل “الفارابي” في علوم الفلسفة
ظلّ الفارابي يروي ظمأ عقله بالعلم والمعارف لا سيما علوم اللغة العربية في مدينة فاراب حتى وصل حاجز العشرين من عمره، ولكنه لم يمكث بها أكثر من تلك المدة فسرعان ما هاجر إلى بغداد المدينة الجميلة التي لطالما لجأ إليها الأعلام والأدباء وغيرهم من النبلاء أمثال الامام الشافعي لنيل العلم من جذور تربتها الخصبة.
تعرّف الفارابي في تلك البلدة على كبار المترجمين والمتحدثين فخالطهم وتلقى العلوم منهم كعلمي المنطق والحكمة، فغاص في هذه المناهج الفلسفية حتى تسنت له الفرصة لأن يشارك مع كبار المترجمين في جلساتهم وأحاديثهم الجدالية فكان صاحب رأي صائب.
الموسيقى رفيقة درب الفارابي منذ فتوته
جميلة هي الموسيقى التي ينتقيها الإنسان ويفضلها عن غيرها لتكون شريكة لحظاته السعيدة أو حتى التعيسة، فحب المرء لها ولألحانها ينبت في وجدانه منذ صباه، فهذا هو الفارابي “المعلم الثاني بعد أرسطو” لم تكن الفلسفة وحدها ما استحوذت على اهتمامه، بل كان مهووسًا بالموسيقى منذ فتوته حتى اختار التضلَع في ثناياها، واتخذ منها علاجًا يداوي الأمراض النفسية بفعالية.
كان عقل هذا الفيلسوف الموسوعي محبًا للتعمق في العلوم الإنسانية والفنون كفن الموسيقى الذي ظلّ يفتش عن أسرار وخبايا صنعه حتى ألمّ بها، ولقد ظهرت شدة تعلقه بهذا الفن الزماني في أهم مؤلفات الفارابي “كتاب الموسيقى الكبير” المكوّن من 1200 صفحة.
حياة الفارابي | شهرته الرحيبة فاقت سيرته الذاتية
إن ما دوّنه المؤرخون عن حياة الفارابي في كتب الشخصيات والعظماء لا يُقارن بالشهرة الرحيبة التي حظى بها، فعظيم هذا الفيلسوف الذي كرّس حياته في الكتابة وتغذية عقله بالعلم والتدريس لا الانشغال في أشياء عديمة الأهمية، كما درس الطب وعلم الاجتماع وغيرهما من العلوم ليكون قادرًا على تحليل مؤلفات أرسطو أحد أشهر الفلاسفة على مرّ العصور.
كان الفارابي أكثر الناس اطلاعًا على كتب مَن سبقوه من الفلاسفة الكبار أمثال أفلاطون وأرسطو وآخرين، لذا تأثر بكتابات هؤلاء كثيرًا حتى صار أبرز مؤسسي الفلسفة المشائية في بلاد الشرق، وتوسعت إسهاماته العلمية وأيضًا الفلسفية إلى حد كبير جعلته استحق لقب “الأستاذ الثاني بعد أرسطو” عن جدارة، وحظى بتقدير واحترام كبير لم يتمتع به أحد ممن سبقوه، فكان ابن رشد وابن سينا مهتمين بكتاباته ولهذا ظلّا يثنيان عليها في مؤلفاتهما.
عقيدة الفارابي | علماء ناهضهم الفقهاء
إن الحديث عن عقيدة الفارابي سيُجبرنا على ذكر آراء بعض العلماء بشأن هذا الأمر، فكثيرون قد كفرّوه أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال عنه: (إن الفارابي يزعم أن الفيلسوف أكمل من النبي) وابن العماد الذي تحدث عنه قائلًا: (إن العلماء قد اتفقوا على كفر الفارابي وزندقته).
السلطة من حق الفيلسوف | أحد آراء الفارابي
يرى الفارابي أن الفلاسفة ليسوا كغيرهم من الأناس بل هم أشخاص كُمّل ذوي مكانة سامية وفكر رفيع لم يصل إليهما بشر سواهم، ولهذا فسلطة البلاد من حق هؤلاء! وكثيرًا ما ناقش مشكلة التنظيم السليم للدول في كتاباته، ربما بصفته أحد الفلاسفة الذين يستحقون حكم دولته، واعتمد في مؤلفاته الأخرى بأفرع العلوم المختلفة على أساليب عدة منها ما يلي:-
– الموسيقى: انبلجت المبادئ الفلسفية لهذا الفن وتأثيراتها البارزة على الأجساد في أحد كتاباته، فأسهب بالحديث عن عظمة هذه الألحان ودورها العظيم في علاج الأمراض المرتبطة بالجانب النفسي.
– المنطق: لم تكن أفكاره المنطقية معتمدةً فقط على منهج أرسطو وتأثره الشديد به بل ناقش موضوعات وعلاقات غير أرسطية، كما قسّم المنطق إلى شيئين مستقلين: الفكرة والإثبات.
– الفلسفة: تمكّن الفارابي من تأسيس صرح فلسفي خاص به في الفكر الإسلامي ألا وهو مدرسة الفارابية، التي يميزها عن سياسة كبار الفلاسفة انتقالها من الماورائيات(ما وراء الطبيعة) إلى المنهجية، ولقد كان مُمهدًا للدروب أمام عمل غيره كـ ابن سينا الذي استوحى منه فلسفته وتأليفه للتصوف.
– علم النفس: دوّن الفارابي أبحاثًا عدة في علم النفس الاجتماعي كـ (مبادئ آراء قاطني المدينة الفاضلة) لتكون اللبنة الأولى للتعامل مع الأشخاص، كما سلّط الضوء على أن بلوغ درجة الكمال الآدمي لن يكون سوى بمؤازرة الأفراد لبعضهما البعض، وهذا ما ذُكر في تحليل نص الفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة بالإضافة إلى تأكيده على أن سعادة الفرد تكون بذاك المكان الذي يحفظ حقوقهم.
– الفيزياء: كم كان عقل الفارابي ذا فكر رحيب! فلقد شرد به وأخذ يفكر في حقيقة وجود الفراغ وطبيعته، مما لجأ لإجراء العديد من التجارب المعملية، ومنها توصّل إلى أن للهواء حجمًا يضطجع ويتوسع من أجل ملء الفراغ الموجود في الطبيعة.
كتابات الفارابي | مؤسس الفلسفة الإسلامية
لم تلحق كتابات الفارابي به بعد وفاته بل ظلّت موجودةً حتى يومنا هذا، فهي ثروة علمية هائلة قد تركها للبشرية جمعاء لكي يُغذوا بها عقولهم، وهذا ما تركه الكثيرون من الفلاسفة والأدباء غيره أمثال زكي نجيب محمود ليكون عوضًا عن احتضارهم، ولقد تُرجمت الكثير من أعمال الفارابي إلى اللغات العبرية واللاتينية في القرنين الثاني والثالث عشر، ومن أجمل هذه المؤلفات ما يلي:-
– الكتاب الكبير في الموسيقى
يعد هذا العمل الأدبي من أجمل مؤلفات العالم المسلم أبو نصر الفارابي -عذراً- من أبرز خمسة كتب موسيقية أُلّفت في الفترة بين القرنين الـ 10 والـ 15 م، ويُقسّم هذا المجلد إلى شقين يحوي أولهما تعريف اللحن ونشأة الموسيقى والآلات التي تُعزف بها وأيضًا أنماط الألحان، بينما يحتضن الشق الثاني على ثلاثة فنون: أعراق صنع الموسيقى، أشهر آلات العزف لدى الشرق، طرق الألحان وكيفية تأليف النغمات.
لقد تكفّل أحد أهم كتاب الموسيقى في العصور الوسطى بترجمة هذا الكتاب الرائع إلى اللغة الفرنسية، وكانت مؤلفات هذا الفيلسوف بمثابة حلقة الوصل الرابطة بين الثقافة الشرقية والغربية في إحدى عصور النهضة الأوروبية، مما استحق أن يكون اسمه مخلدًا في كتب التاريخ العالمية.
– كتاب نظرية المعرفة عند الفارابي
يتحدث الفارابي الموسوعي في هذا الكتاب عن المعرفة، فيقول إنها لا تقوم إلا على ثلاثة أشياء هم: الركيزة (الحسية، الإشراقية، العقلية) وتختلف هذه المبادئ بين أفراد الجنس الواحد وفقًا للقدرات التي حصّلها هؤلاء في نيل المعرفة والعلوم، ويمكن تحميل كتاب نظرية المعرفة عند الفارابي pdf من خلال الضغط على الرابط السابق.
– كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة
كانا فيلسوفا العصر الإغريقي (أفلاطون وأرسطو) مثلًا أعلى ودربًا سليمًا قد سار على نهجه الفارابي عند تسطيره لهذا الكتاب الشهير، فـ المدينة الفاضلة عند الفارابي قد تبدو خياليةً بعض الشيء للكثيرين إلا أن بها من الحقائق ما يفيض، فهي ليست من عالم الخيال العلمي والمغامرات بل منبثقة من أفكار الفلاسفة المتناغمة مع الأشياء الواقعية.
المدينة الفاضلة بين أفلاطون والفارابي
ويمكن توضيح المدينة الفاضلة بين أفلاطون والفارابي وفقًا لفلسفة كل منهما حيث يتشعب النظام السياسي للبلاد عند أفلاطون إلى أربعة محاور: (طبقات المجتمع، التعليم في دولة أفلاطون، الشيوعية عند أفلاطون، أنظمة الحكم عند أفلاطون) بينما ينقسم وفقًا لفلسفة الفارابي إلى خمسة أشياء: (المجتمعات في مدينته، المدينة الفاضلة عند الفارابي، خصال أهل هذه المدينة، نظام الحكم فيها، مضادات المدينة الفاضلة، طبيعة الحكم في المدن الجاهلة).
لماذا اختلف الباحثون في تحديد مسقط رأس الفارابي ؟
تناثرت أقوال الباحثين في هذا الأمر نتيجة لإطلاق اسم فاراب على مناطق عدة في دول أسيا مثل: تركمنستان، خراسان، أفغانستان، وغيرهم.
هل تأثر المتنبي بفلسفة الفارابي؟
نعم؛ فلقد عاشر الفارابي عامين حينما كان الآخر في حماية سيف الدولة، كما كان مواظبًا على حضور مجالسه وقراءة كتاباته.
متى توفي الفيلسوف التركي الفارابي؟
توفي الفارابي عام 339 هـ في مدينة دمشق السورية عن عمر قد ناهز الـ 79 عامًا، ودُفن في مقبرة باب الصغير.
ما أبرز مؤلفات الفارابي الموجودة باللغة العربية؟
فصوص المسائل، رسالة في ماهية الروح، التوفيق بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، رسالة في المنطق، وغيرهم.