انتشر بقوة فن النقائض في العهد الأموي؛ الأمر الذي جعل الباحثون يختزلون مفهوم النقائض على الهجاء، حيث كان يُستخدم في التعبير عن الصراعات السياسية وخلافات الأحزاب في تلك الفترة، فبات يقصد بمفهوم النقائض السخرية والجهاء، وكان الفرزدق من فحول فن النقائض في هذا العصر وذاع صيته كثيراً، وعرف عنه قدرته الكبيرة على الحوار والجدال واطلاعه على العديد من العلوم المختلفة أمثال الفقه وتاريخ الأيام والتدقيق في ماضي الآخرين،فأصبح متمكنًا جداً في هذا الفن الصعب.
نبذة مختصرة عن حياة الفرزدق
يعد الفرزدق أحد الشعراء العرب النابغين، واسمه همام بن غالب بن صعصعة، جاء إلى الحياة في عام 20 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في عهد الفاروق عمر بن الخطاب، ولد في البصرة بالعراق، وأمه هي ليلى بنت حارس أخت الأقرع بن حارس الذي يعتبر أحد الصحابة الأجلاء ومن أشراف العرب في العصر الجاهلي، وكان أبوه أيضا سيدا شريفا ومن رؤساء العشيرة.
وقد ذكر عنه أنه كان يكنى أبا فراس، أما اسم الفرزدق قد أطلق عليه بسبب جهامته وضخامته وخشونة علامات وجه، وعرف عنه النسب الرفيع، فهو آت من أحد أشهر وأعرق القبائل البدوية في الجاهلية والتي تسمى درام، حيث اشتهرت هذه القبيلة بقوتها بين القبائل الأخرى.
وقيل عنه أيضا أنه أخذ من نشأته في البادية صفات أهلها المتمثلة في حدة الطباع وقوة الجدال واللغة الصحراوية الصعبة، ذلك الأمر الذي منحه خصالا وطباعا لم يغيرها طيلة حياته.
كان من الشعراء النبلاء الذين أثروا اللغة، فهو لم يترك باب شعر إلا وطرقه؛ فحاز على إعجاب الناس حتى قيل “لولا شعر الفرزدق لاختفى ثلث لغة العرب، ولولا شعره لما ورد إلينا نصف أخبار ناس هذا الزمان”.
تعددت زيجات الفرزدق، فكانت من بين زوجاته النوار بنت مشاجع وهي ابنة عمه وقد أنجب منها جميع أولاده، حدراء الشيبانية، ظيبة بنت حالم بن مجاشع، ورهيمة بنت غني النمرية، ولكن الكثير من هذه الزيجات قد انتهت بالطلاق، وقد قام برثاء بعضهن في قصائده، ويمكنك عزيزي القارئ من خلال كتاب حياة الفرزدق pdf الاطلاع على تفاصيل أكثر عن قصائده وحياته.
الجانب السياسي في حياة الفرزدق
لم يترك الفرزدق أي شيء إلا وتحدث عنه في شعره، وكان الجانب السياسي في عهده خير مثال على ذلك، فقد كان يجوب بين الخلفاء والحكام فينهال بالمديح على بعض منهم، ويهجو البعض الآخر.
كان دائم الولاء لآل البيت، فكانت الكثير من أبيات أشعاره مدحا لهم، ولم يخشى في ذلك أحدا، فقد كان يجاهر به ويفعله في العلن، ومن أفضل الأمثلة على ذلك قصيدته الشهيرة الميمية التي قام فيها بمدح زين العابدين.
وعلى الرغم من كل هذا الحب والولاء لآل البيت، إلا أنه تقرب أيضًا من الخلفاء الأمويين وكثيرا ما مدحهم، وخصوصا في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان وأبنائه.
توجه إلى المدينة عندما استلم زياد بن أبيه مقاليد السلطة والحكم في العراق، وحدث ذلك سنة 669 من الميلاد، وظل في المدينة عدة سنوات، ولم يرجع إلى البصرة ثانية إلا حين فارق زياد بن أبيه الحياة، وقام بمدح عبيد الله بن زياد الذي أصبح وليا على البصرة ونال دعمه ومساندته، كما تودد إلى الحجاج ومدحه في شعره عندما أصبح واليا على العراق سنة 694 من الميلاد.
سمات شعر الفرزدق
كان الفرزدق على قدر عال من الفصاحة والدهاء، ينتابه دائما الشعور بالفخر والزهو بذاته وبقومه، كما تمتع بمنزلة عظيمة في شتى جوانب الحياة؛ الأدبية والاجتماعية والسياسية، فقد كان سيدا في قومه، ومن رواد الشعراء في عصره، حتى أنه قام بتوثيق الأحداث التي شهدها العرب في زمانه.
وكان للفرزدق بصمة كبيرة وتأثيرا واضحا على الشعر، فـ ديوان الفرزدق يضم مختلف فنون الشعر، وكان أكثر تميزا في شعر المدح، كما كان متمكنا أيضا في أغراض الشعر الأخرى مثل الغزل والهجاء، وشعره بشكل عام يتسم بقوة الألفاظ وفخامة العبارة ورصانة التركيب، وورد عنه حبه الشديد لاستعمال غريب الألفاظ في شعره.
وكانت سمة قصائد الفرزدق أنها ليست طويلة، وذلك حتى يصبح من السهل حفظها، وتنتشر بشكل سريع ويتداولها الناس في المجالس، وقد قام بعمل قصيدة يرثي في أبياتها ذاته، وتحمل هذه القصيدة عنوان أنا مدينة الشعراء، ولم يتوجه كثيرا لعمل قصائد في أغراض الرجز والغزل.
أغراض الشعر عند الفرزدق
لقد تطرق الفرزدق في قصائده إلى مختلف أغراض وفنون الشعر، ومن أهمها ما يلي:
1) الفخر
يعد الفخر أكثر فنون الشعر التي اشتهر بها شاعرنا وأكثرها ملائمة لطبعه، وهذا راجع بالأساس إلى قبيلته التي عززت بداخله الإحساس بالشرف والعزة، وقد ذهب بمعاني الفخر في قصائده إلى الكرم والمجد والحلم، فقد كان يلجأ للأسلوب القوي والمتين والألفاظ الغريبة، ومن أهم ما جاء به في غرض الفخر ما يلي:
لَنَا العِزّةُ الغَلْبَاءُ، وَالعَددُ الذي عَلَيْهِ إذا عُدّ الحَصَى يُتَحَلّفُ
تَرى الناسَ ما سِرنا يسيرونَ خَلفَنا وإن نحنُ أومأنا إلى الناَّسِ وَقَفوا
وقد عَلِمَ الجيرانُ أنَّ قُدورَنا ضَوامِنُ للأرزاقِ والريحُ زفزفُ
2) المدح
كان هدفه من شعر المدح هو التقرب والتودد من الخلفاء والولاة لكي يلبي احتياجات عشيرته أو ليمنع بطحهم عنها، فلم يهدف التربح من ذلك، فقد مدحهم بكرام الخصال مثل العدل والرحمة والشرف، ومن أبرز قصائده في غرض المدح هي تلك التي قام فيها بمدح سيدنا علي بن ابي طالب رضي الله عنه وحفيده زين العابدين فقد أشعر فيه وقال:
هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هَذا اِبنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ هَذا التَقِيُّ النَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ
هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِن كُنتَ جاهِلَهُ بِجَدِّهِ أَنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا
3) الهجاء
خاض شاعرنا كثيراً في قصائد الهجاء وخصوصاً تلك التي قالها في جرير ، وقد احتوى شعر النقائص على هجائه لجرير ، وكان هجائه مصحوبا بالفخر فقد كان ينهال بالهجاء على قبيلة ما ويقوم بمدح قبيلته، ومن أبرز ما قاله في ذلك الصدد هو:
إِذا ما بَريدُ النَضرِ جاءَ بِنَصرِهِ وَسُلطانِهِ أَلقى قُيودَ اِبنِ غالِبِ
لَئِن مالِكٌ أَمسى قَدِ اِنشَعَبَت بِهِ شَعوبُ الَّتي يودى لَها كُلُّ ذاهِبِ
لَقَد أَنزَلَ اللَهُ الَّذي تَلتَقي بِهِ عَلَيهِ مَنايا المَوتِ مِن كُلِّ جانِبِ
جرير والفرزدق
لقد كان جرير والفرزدق من أهم وأشهر الشعراء في العصر الأموي، فهم من حملوا لواء الشعر في هذا الزمان، وقد نشبت بينهما معركة شعرية عظيمة، امتدت لما يزيد عن 40 عاما، وأسفرت تلك المعركة عن ظهور ما يسمى بـ نقائض جرير والفرزدق.
فقد تبادلوا فيها الهجاء لبعضهم البعض، فقد كان هجاء جرير للفرزدق لاذع وقوي للغاية، إلا أن وفاة الفرزدق قد أسدلت الستار على تلك النقائض، وكتب جرير فيه قصيدة رثاء.
قد قيل أن هذين الشاعرين جمعتهما علاقة صداقة قوية إلا فيما يخص الشعر، فكان كثيرا ما يمشيان في الأسواق مع بعضهما البعض، ولكن في عالم الشعر تجمعا أيضا ولكن على العداوة التي وصلت إلى حد الهجاء.
المنافسة الشعرية بين جرير والفرزدق
كانت الحقبة الزمنية التي جاء منها شاعرنا مليئة بالعديد من الشعراء العرب فاصحي اللسان بالغي التعبير، فكان جرير والفرزدق والأخطل أشهر شعراء تلك الحقبة.
استمرت المنافسة بين جرير والفرزدق قرابة الأربع عقود، وكان الناس فيها منقسمين إلى جبهتين متخاصمتين، جبهة جرير وجبهة الفرزدق.
ولم يكن الفرزدق كثير التوجه إلى شعر الغزل، كما أن شعر الفرزدق في الحب كان قليل، وذلك على عكس جرير الذي كان يميل إلى فن الغزل كثيرا، ولكن الفرزدق كان ذا باع طويل في الفخر، ونجد أن نقائض جرير والفرزدق في فنون الشعر المختلفة تم طباعتها في أكثر من مجلد.
آراء الشعراء والأدباء في شعر الفرزدق
تطرق الكثير من الشعراء والأدباء إلى الحديث عن الفرزدق وشعره، ومن أبرز هؤلاء الشعراء والأدباء ما يلي:
1- ابن سلام: وضعه في الصف الأول من شعراء الإسلام، وقام بتفضيله على كل من الأخطل وجرير.
2- أبو عبيدة: قال عنه أن شبيه زهير بن أبي سلمى من ناحية قوة الشعر، فلولا شعر الفرزدق لاندثر ثلث اللغة.
3- جرير: على الرغم من كثرة المناظرات الشعرية بين جرير والفرزدق ، فلم يمنع ذلك جرير من مدحه، فقد قال عنه أن شعره من أجود الأشعار، وأنه يشبه شجرة النبعة التي يعرف عنها الجودة والصلابة.
4- أبو فرج الأصفهاني: وضعه هو وجرير والأخطل في مقدمة الشعراء الذين ظهروا في العصر الإسلامي.
ويعتبره المؤرخون أحد أكثر الشعراء تقديما لشعر الفخر، حيث كان لنشأته أثر كبير في ذلك، فهو آت من قبيلة ذات أصل كريم ونسب رفيع بين غيرها من القبائل، كما قالوا عنه أيضا أنه ذو عزيمة قوية ظهرت في أشعاره.
وفاة الفرزدق
اختلف المؤرخون حول العام الذي كان شاهدا على وفاة الفرزدق ،ولكن كان هناك إجماع على أنه توفي عن عمر يقترب من المئة عام، كما اتفقوا أيضا على السبب الذي أدي إلى وفاته وهو إصابته بداء الدبيلة حيث إنه أحد الأمراض التي تصيب الجوف.
فارق الفرزدق الحياة ولكن شعره ظل حيا وانتقل من عصر إلى آخر، يتداوله الدارسون ويتغنى به المستشعرون حتى وصل إلى يومنا هذا.
ما أبرز ما اشتهر به الفرزدق؟
إن أكثر ما اشتهر به شاعرنا هو قيامه بمدح بعض الخلفاء والأمراء الذين عاصرهم، وهجاء البعض الآخر، وذلك بجانب منافسته الشعرية الشرسة مع الشاعر جرير.
من هم أولاد الفرزدق؟
كان الفرزدق قد أنجب خمسة من الأولاد وهم؛ لبطة، وسبطة، وخبطة، وركضة، وزمعة، وكان هذا الأخير قد ورث عنه حبه للشعر فأصبح شاعرا.
في أي مكان دفن الفرزدق؟
تم دفنه في مدينة البصرة بالعراق، واختلف المؤرخون حول العام الذي توفي فيه، ولكنهم قالوا إنه يتراوح بين عام 110 وعام 114 من الهجرة.
ما هي أشهر قصائد الفرزدق المغناة؟
تعتبر قصيدة يا سائلي أين حل الجود والكرم أشهر القصائد المغناة له، وتلك القصيدة قيلت في مدح الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان مشاري راشد العفاسي هو من قام بغنائها.