عُرف عنها التعفف الشديد فلُفقت لها التهم والأكاذيب، وكانت أحب زوجات الصادق الأمين لقلبه الرحيم، إنها لبنت الصديق رمز القداسة والتهذيب التي برّأها الله من فوق سبع سماوات في حادثة الإفك والتزوير، فكيف لمَن خُلقت من العفاف أن تُنسب إليها الأدناس والأضاليل!
حادثة الإفك .. افتعلها زعيم المنافقين
مقززون هؤلاء الذين يختلقون من الباطل حقًا ويصدقون ما يتفوهون به من الأباطيل، فكيف لعقول بشرية أن تصل إلى هذا المستوى الدنيء من التلفيق! فلم يخلقنا الله بُعران لتمتطي الافتئات على أذهاننا مثلما تُركب الأباعير، ولكن هذا هو حال زعيم المنافقين (ابن سلول) الذي سمّع نفاقه أرجاء المدينة المنورة في زمن رسولنا الكريم.
ملخص حادثة الإفك .. براءة سماوية ونجاة حتمية
خرجت السيدة عائشة –رضى الله عنها- بصحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاصدين الجهاد في سبيل الله خصيصًا إلى منطقة ما تُعرف بـ (ماء المريسيع)، فدارت هناك معركة بين المسلمين وإحدى القبائل من خزاعة سُميت بـ غزوة بني المصطلق ، تلك التي انتصر فيها المجاهدون بعدما باغتوا هؤلاء في عقر دارهم، ولمّا انتهى وقت القتال واستعد الجيش للرحيل نزلت عائشة من هودجها لتقضي حاجتها، وحينما استأنفت رحلتها تفقدت قلادتها فلم تجدها، فأسرعت تبحث عنها.
عادت عائشة إلى أينما تواجدت القافلة بعدما عثرت على عقدها ولكن تفاجأت برحيلها دون أن يُلاحظ غيابها، ولم تكن بيدها حيلة سوى المكوث في مكانها منتظرةً إتيان أحد ليفتش عنها، ولقد غلبها النعاس حتى استفاقت من غفوتها على صوت ما فإذا بالصحابي (صفوان بن المعطل السلمي) الذي أتى ليتفقد آثار الجيش، فغطت وجهها بثوبها ولم تتفوه بأي كلمات، وانطلقت ابنة الصديق راكبةً على راحلته حتى وصلت إلى المدينة.
كعادة المنافقين يحبون ترويج الأكاذيب واختلاق الفتن للمسلمين، هكذا سار المنافق (عبد الله بن أبيّ بن سلول) على خطى هؤلاء، فلقد كان أول مَن سقطت عيناه على مجيء السيدة عائشة برفقة صفوان، مما أراد استغلال فرصة إتيانهما معًا، فألحق التهم بهما وخاض في عرضهما ونسب إليهما ارتكاب الجُنحات.
تسميع الإشاعات آذان أهل المدينة دون عائـشة
(مرض عائشة الشديد ناب قليلًا عن تذوقها أقسى الآلام)
راجت الإشاعات التي اختلقها هذا المنافق كثيرًا إذ سمع بها قاطنو المدينة كافة سوى صاحبة الشأن العفيفة التي غفلت عما يُقال عنها، فمرضها الشديد بعد مجيئها من هذه الغزوة كان ملهيًا لها عما اتُهمت به، فلقد ظلّت ثلاثون يومًا مستلقيةً في فراشها لم ترَ أحدًا ولكن قد شعرت بجفاء رسول الله وابتعاده قليلًا عنها.
بعدما اقترب شفاؤها من مرضها خرجت من بيتها فوجدت أم مسطح تذم ولدها فقالت لها: (بئس ما قلت، أتسبين رجلًا شهد بدرًا؟) فأجابتها أمه: أولم تعرفي ما قاله فيكِ؟ فقالت: لا والله، فأخبرتها بـ حادثة الإفك التي تحدّث الجميع عنها، فردت عليها عائشة: لقد اشتد عليّ المرض.
حال أم المؤمنين بعد علمها بالاتهامات المُلفقة إليها
كان سقم عائشة ومكوثها طيلة هذه المدة برفقة فرشتها سببًا في تناسيها عما يُحكى عنها بالخارج، لذا حينما علمت بـ حادثة الإفك والبهيتة استأذنت رسول الله أن تذهب إلى بيت أهلها حتى تُشفى من مرضها، كما أرادت سماع هذه الأخبار من والديها فأخبرتها أمها بكل ما قيل، ولم تعرف عائشة طريق النوم منذ تلك الليلة، فالبكاء قد اشتد عليها لا تدري ما بوسعها أن تفعل.
لم يكن محمد رسول الله في أحسن حال بل كان حزينًا باكيًا بما اتُهمت به زوجه الشريفة، فالوحي قد تأخر في النزول عليه لكي يبرأها، لذا استشار أصحابه في أمره أيترك عائشة أم يبقيها؟! ثم ارتقى على المنبر وقال: “يا معشرَ المسلمين، مَن يَعْذُرُني مِن رجلٍ قد بلَغَني عنه أذاه في أهلي، واللهِ ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمتُ عليهم إلا خيرًا وما يدخلُ على أهلي إلا معي”
ما دار بين الرسول والسيدة عائشة في بيت أبيها
أتى رسول الله إلى بيت أبي بكر ليتحدث مع زوجه ويخبرها بما سمع قائلًا: (يا عائشة فإنه بلغني عنكِ كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً فسيُبرئكِ الله، وإن كنتِ ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب؛ تاب الله عليه) فلم يكن بمقدورها إجابته، فاستعانت بأبيها ليرد مكانها فلم يعرف ماذا يجيب، ثم لجأت إلى أمها لفعل ذلك فعجزت أيضًا عن الحديث.
فلم تجد عائشة مَن يتكفل بالإجابة عنها سوى نفسها، فقالت: (إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني بذلك،….. والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف إذ قال:{فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون} يوسف:18) فكم كنت محسنة الظن بالله بأنه سيُبرؤكِ من أكذوبة حادثة الإفك واتهامك بالزور!
نزول براءة السيدة عائشة من فوق سبع سماوات
“على قدر الصبر يأتي الجبر” فها هي عائشة قد صبرت كثيرًا في محنتها العصيبة المسماة بـ حادثة الإفك ، والتي لم تجد مَن يقف بجوارها فيها ليواسيها ويخفف عنها سوى يقينها بأن الله عالم بعفتها، وها هي البراءة قد حلّت حينما أذن الرحمن بنزولها بكتابه العزيز في آيات قرآنية جزاءً على صبرها وتوكلها عليه.
لم تظن عائشة أن الله سينزل وحيًا يُتلى في شأنها من أجل تبرئتها بل توقعت رؤية رسول الله براءتها في منامه ولكن إرادة الله ما حكمت بذلك، وذهب النبي إليها ليخبرها بنزول سيدنا جبريل عليه فقال لها: (أبشري يا عائشة! أما الله فقد برّأكِ) وأنزل فيكِ عشر آيات من سورة النور بُدأت بـ آية حادثة الإفك : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ….} واختُتمت بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ….}
هكذا وضّح المولى -عز وجل- في آياته الكريمة هذه براءة ابنة الصديق الشريفة بنت الشريف بشكل صريح من التهم التي نُسبت إليها، فما دام اليقين بالله محفور في قلوب العباد مثلما هو مدفون في وجدان السيدة عائشة فلا داعي للخشية من أفعال الأناس.
حديث مَن كثر بكاؤه كلما سمع حادثة الإفك
كان من أجلّ العلماء الذين تحدثوا عن حادثة الإفك ابن باز -رحمه الله- الذي كلما سمع عنها أجهش بالبكاء فذرفت الدموع من عينيه، فقال في هذه المحنة: (عائشة بنت الصديق -رضى الله عنها- هي أم للمؤمنين بإجماع المسلمين، ومن زعم أنها زنت أو اتهمها بذلك فقد كفر بإجماع المسلمين)
ما رواه البخاري في صحيحه عن حادثة الإفك ؟
لقد ذُكرت حادثة الإفك في صحيح البخاري حيث قال: (عن حديث عائشة حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وكل حدثني طائفةً من الحديث، قالت: فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئةً، وأن الله يُبرئني ولكني واللهِ ما كنت أظن أن الله يُنزل في شأني وحيًا يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يُتلى….)
أسئلة تطوف بعقول الكثيرين عن حادثة الإفك
إن أكثر ما يجول بخاطر الكثيرين من أسئلة في صدد الحديث عن حادثة الإفك هذان السؤالان ماذا قالت عائشة في حادثة الإفك ؟ وأيضًا كم استمرت حادثة الإفك ؟ فأما عن إجابة الأول فلقد أسهبت بالكلام عنه بين طيات الأسطر السابقة، وأما عن الثاني فلقد بدأت فور مجيء السيدة عائشة من غزوة المريسيع واستمرت أشهرًا عدة.
“ألا تحبون أن يغفر الله لكم” فيمَن نزلت الآية؟
“ولا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنكم والسَّعَةِ أنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبى والمَساكِينَ والمُهاجِرِينَ في سَبِيلِ اللَّهِ ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا ألا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” فتلك هي الآية التي نزلت في أبي بكر في حادثة الإفك بعدما أراد الله أن يلين قلبه فيعفو عن ابن خالته مسطح بن أثاثة، وذلك بعدما أخدته الجراءة لأن يتحدث بالسوء عن ابنة الصديق مع أهل الإفك.
ظلّ مِسطح فقيرًا يعاني شظف العيش ليس بمقدوره الإنفاق على نفسه طيلة حياته فكان ابو بكر الصديق مَن ينفق عليه، وحينما تكلم بالقبح عن ابنته قرر مقاطعة ما يجديه عليه، فنزلت هذه الآية في خليل النبي لتحثه على مواصلة صلة القرابة بينهما، فتأثر بها كثيرًا وقال: “والله إنا نحب -يا ربنا- أن تغفر لنا” ثم ذهب إلى مسطح ومنحه ما كان يعطيه من النفقة.
الغوص في العبر والمواعظ المستمدة من حادثة الإفك
يُستنبط من المعارك والحوادث الإسلامية كثير من العظات والفوائد، ولعل أبرز الدروس المستفادة من حادثة الإفك ما يلي:-
– أن الابتلاء سنة كونية لا تتغير ولا تنقلب، وذلك لكي يفرق الله بها بين الخبيث والطيب.
– الصبر على الابتلاءات إذ إن فرج الله قريب وآت حتى لو بعد حين، وحسن الظن بالله دون أن يتذبذب يقيننا به.
– الحنو على نساء المؤمنين اللاتي يعدن رمزًا للعفة والعفاف وقتما تُنسب إليهن الأكاذيب والافتراءات كالتي اتُهمت بها حليلة رسول الله وخليلته عائشة بنت الصديق من قِبل المنافقين، والتي اتُهمت بها أشرف نساء العالمين ابنة عمران حينما رماها اليهود بالهتان.
– تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع زوجاته بلين ورفق وضبط النفس حينما يستدعي الموقف ذلك، مع تحليه بالتأني والتروي في صدور أحكامه، فلم يقطع سؤاله عن عائشة حينما مرضت بل كان حريصًا على الاطمئنان على حالها.
– {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} فوحده -سبحانه وتعالى- مَن يفقه الغيب حتى أن نبيه الشريف ليس بعالم به، فلو كان خلاف ذلك ما ترقب نزول الوحي عليه ليحسم الجدال حول حادثة الإفك المفتعلة، وهذا لا يتنافى مع كون النبي واثقًا في زوجاته كافة وعالمًا كم أنهم ممنوعون من ارتكاب الفواحش.
مَن هم الصحابة الذين جلدوا في حادثة الإفك؟
أقام رسول الله حد القذف على كل من: حسان بن ثابت، مسطح بن أثاثة، حمنة بنت جحش.
ما هو موقف الرسول من حادثة الإفك؟
لم يشك رسول الله في عائشة لعلمه ببراءة زوجاته من ارتكاب الفسوق ولكنه رغم ذلك كان مرتقبًا نزول الوحي لكي يؤكد للجميع براءتها.
ماذا فعل النبي حينما تأخر نزول الوحي؟
حينما تأخر نزول الوحي ليكون شاهدًا على براءة السيدة عائشة استشار النبي كل من على بن أبي طالب وأسامة بن زيد وغيرهم في أمر إبقاء زوجه أم تركها.
متى انتقلت السيدة عائشة إلى رحمة الله؟
توفيت ابنة الصديق يوم الثلاثاء في السابع عشر من رمضان عام 58 هـ، ودفنت في مقبرة البقيع.