((ولستُ أبالي حين أُقتل مسلماً ** على أي جنب كان لله مصرعي))، هذا ما هتف به الصحابي الباسل المقدام خبيب بن عدي قبل أن يرتقي شهيداً ويُصلب على رءوس الأنام، فَمَن هو هذا الصحابي وما قصته وكيف تعامل مع محنته؟ في سطور هذا المقال بيان مفصل حول أبرز ما جاء في هذا الصدد من الأقوال.
مَن هو خبيب بن عدي ؟
هو الصحابي الجليل خبيب بن عدي بن مالك بن عامر بن مجدعة بن جحجبي بن عوف بن كلفة بن عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري، يعرف باسم بليع الأرض، ولد تحت سماء يثرب وأسلم مع رسول الله فكان من أنصار المدينة المنورة، لكن المصادر لم تذكر شيئاً حول تاريخ مولده.
فضائل خبيب بن عدي :
كان من فضائل خبيب بن عدي رضي الله عنه ما يلي:-
1) شهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم غزوة بدر الكبرى وغزوة أحد وأبلى بلاءً حسناً.
2) جمع بين العلم الشرعي والجهاد في سبيل الله.
3) ثبت على دين الله ولم يقبل بالمساومة فيه.
4) كان ورعاً أميناً محباً لرسول الله وحريصاً على الاقتداء بهديه.
قصة استشهاد خبيب بن عدي :
أرسلت قبيلتان عربيتان وافداً إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليطلب منه إرسال نفر من أصحابه إلى هاتين القبيلتين حتى يفقهوهم في الدين ويعلموهم القرآن الكريم ويملوا عليهم شرائع الإسلام، فانصاع النبي لطلب القبيلتين وبعث إليهما عشرة من أصحابه منهم خبيـب بن عدي وعاصم بن ثابت ومرثد بن أبي مرثد وزيد بن الدثنة وآخرون.
فلما بلغ العشرة الرجيع – وهو مكان يقبع بين عسفان ومكة المكرمة – أغار عليهم مائتا رجل من بني لحيان وأحاطوا بهم، فقتلوا بعضهم وأخذوا بعضهم الآخر في الأسر، في حادثة مفجعة عرفت باسم الرجيع نسبةً إلى ماء الرجيع الذي وقعت عنده، وكان خبيب بن عدي ضمن مَن وقعوا في الأسر، فانطلقوا به وزيد بن الدثنة حتى بلغوا مكة المكرمة وباعوهما لقريش، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبَ بـن عـدي الذي قتل الحارث بن عامر في غزوة بدر، إذ أرادوا الثأر للحارث فأسروا خبيباً.
علم خبيـب بـن عدي بعزم المشركين على قتله، فلما اصطحبوه خارج الحرم طلب منهم أن يمهلوه ليصلي ركعتين ففعلوا، ثم اقتادوه وعلى دينه ساوموه، ولما أبى نصبوا له خشبةً وعليها صلبوه، ثم صرعه ابن الحارث فارتقى شهيداً، وقد ذكر الإمام البخاري تفاصيل قصة استشهاد خبيب بن عدي في صحيحه.
ما هي قصيدة خبيب بن عدي ؟
ذكر ابن إسحاق أن قصيدة خبيب بن عدي التي أنشدها قبل إقدام مشركي قريش على صلبه هي ((لقد جمَّع الأحزاب حولي وألَّبوا ** قبائلهم واستجمعوا كل مجمع ** وكلهم مبدي العداوة جاهد ** عليَّ لأني في وثاقي بمضيع ** وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ** وقربت من جذع طويل ممنَّع ** إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي * وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي ** فذا العرش صبرني على ما يراد بي ** فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي)).
ثم أردف في قصيدته تلك قائلاً ((وذلك في ذات الاله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شِلو ممزَّع ** وقد خيروني الكفر والموت دونه ** وقد هملت عيناي من غير مجزع ** وما بي حذار الموت إني لميت ** ولكن حذاري جحم نار ملفَّع ** فلست أبالي حين أُقتل مسلماً * على أي جنب كان في الله مصرعي ** ولست بمبدٍ للعدو تخشُّعاً ** ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي))، والأوصال جمع لكلمة وصل، أي العضو، والشلو هو الجسد، والممزع أي المقطع.
كرامة خبيب بن عدي :
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله ((من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بكرامات الأولياء وأنها حق))، وكانت كرامة خبيب بن عدي رضي الله عنه في حادثة أسره واستشهاده واضحة، إذ كان يأكل العنب بينما هو أسير مقيد رغم عدم وجود العنب في مكة المكرمة وقتذاك حتى أن المرأة المشركة فوجئت بذلك فقالت ((لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة ثمرة وإنه لموثق في الحديد)).
بالإضافة إلى إجابة الله لدعوته عندما دعا على قتلته، وأيضاً إخبار جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر استشهاد خبيب وإعلامه بالمكان الذي صلب فيه، وعندما وصل الصحابة إلى جثمانه بعد مضي أربعين يوماً وجدوه رطباً لم يطاله أي تغيير، ويذكر أن القوم طاردوا الزبير والمقداد خلال حملهما جثة خبيـب، فلما لحقوا بهما قذف الزبير بالجثة على الأرض فابتلعتها على الفور ولم يرَ لخبيب أثر بعدها، لذا سمي ببليع الأرض.
الدروس المستفادة من قصة خبيب بن عدي :
هناك عدة دروس يمكن استنباطها من قصة خبيب بن عدي رضي الله عنه، نذكر منها ما يلي:-
1) الغدر ليس من شيم المسلمين :
ورد في طيات قصة الصحابي خبيـب بن عدي أن صبياً من أهل الحارث جلس على فخذ خبيـب في غفلة من أمه خلال فترة الأسر، كان خبيـب يمسك بموس حاد للحلاقة، وكان يدرك أنه مقتول لا محالة، دخلت أم الصبي ففزعت ظناً منها أن خبيباً سيقدم على قتل طفلها انتقاماً منهم، لكنه فاجأها بقوله ((أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى))، فقد تربى خبيب في مدرسة النبوة التي علمته أن الغدر ليس من شيم المسلمين، عملاً بوصية محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تخن من خانك)).
2) ابتلاء الله لمَن يشاء من عباده :
وقوع خبيب في الأسر وقتله مصيبة بلا شك، لكن الله يبتلي مَن يشاء من عباده بما شاء، فهو يصطفيهم لينتقلوا إلى جواره ويكرمهم ويخلصهم من شقاء الحياة الدنيا، حيث يقول الله في الآية رقم 140 من سورة آل عمران ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شهَدَاءَ))، فعلى المسلم أن يصبر ويرضى عند وقوع البلاء.
3) مشروعية الصلاة قبل القتل والدعاء على الكافرين :
لما هم المشركون بقتل خبيب استأذنهم في السماح له بصلاة ركعتين، وقد أقر النبي فعله ولم ينكره بعدما عرفه، فأصبحت الصلاة مشروعة في هذا الموقف، حيث يقول ابو هريرة رضي الله عنه ((وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتِل صبراً))، والمقتول صبراً هو مَن لم يقتَل في حرب أو على غفلة، كما يشرع الدعاء على القوم الكافرين، إذ دعا عليهم خبيب بعدما فرغ من صلاته.
4) حرمة الأشهر الحرم والمسجد الحرام :
رغم كفر المشركين إلا أنهم كانوا يقرون بحرمة الأشهر الحرم وحرمة بيت الله الحرام، فما كانوا يجرءون على سفك الدماء في هذه الأشهر أو في داخل حدود الحرم، لذا أبقوا خبيباً في الأسر ريثما تنتهي الأشهر الحرم ثم اقتادوه خارج حدود الحرم، واليوم نجد من المسلمين مَن ينتهك حرمات الله دون مهابة أو تعظيم لحدود الله!
5) تعظيم الصحابة للسنة النبوية :
كان خبيب في الأسر، يرتقب تنفيذ حكم القتل عليه، ومع ذلك طلب من أهل البيت موساً حاداً للاستحداد – حلق العانة -، لأنها سنة نبوية من سنن الفطرة التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالتزامها، أما نحن اليوم فنستهين بالكثير من الأمور الحسنة بحجة أنها تندرج تحت بند السنن والمندوبات لا الفروض والواجبات.
6) مشروعية الإنشاد عند القتل :
نستفيد من قصة خبيب أيضاً أن الإنشاد وتنظيم أبيات الشعر عند القتل أمر مشروع، إذ يشي بالثبات وقوة النفس والشدة في الدين.
7) الإيمان بكرامات أولياء الله الصالحين :
الكرامات هي خوارق العادات التي يسخرها الله لبعض أوليائه إما لإقامة الحجة على أعداء الدين من خلال النصر والتمكين أو لقضاء حاجاتهم كتزويدهم بالطعام والشراب من حيث لا يعلمون وما إلى ذلك، شريطة أن يكون الشخص مستقيماً على كتاب الله وسنة نبيه، ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بهذه الكرامات.
بليع الارض خبيب بن عدي والقرآن الكريم :
نزلت خواتيم سورة الفجر ((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ** ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ** فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ** وَادْخُلِي جَنَّتِي)) عقب استشهاد الصحابي خبيـب بن عدي رضي الله عنه، وذهب أبو الحسن مقاتل بن سليمان إلى أن هذه الآيات نزلت فيه على وجه الخصوص بعد حادثة صلبه على أيدي المشركين.
من الصحابي الذي كان سبب إسلامه موت خبيب بن عدي ؟
يتساءل البعض من الصحابي الذي كان سبب إسلامه موت خبيب بن عدي والإجابة هي أن هذا الصحابي هو سعيد بن عامر، حيث تأثر بحادثة صلب خبيب واستنكر ما فعلته قريش به رغم أخلاقه السمحة، الأمر الذي دفعه للدخول في الإسلام.
ما هو دعاء خبيـب بن عدي ؟
كان دعاء خبيب بن عدي رضي الله عنه قبل استشهاده ((اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً وﻻ تغادر منهم أحداً))، وقد استجاب الله له فكل مَن دعا عليه وجد مصرعه.
مَن هو الصحابي الذي دفنته الملائكة ؟
يعتقد البعض أن خبيـب بن عدي هو الصحابي الذي دفنته الملائكة لكن هذا الاعتقاد غير مدعوم بأدلة صحيحة ثابتة في السنة النبوية، وهناك بعض الآثار التي تذكر أن عامر بن فهيرة هو دفين الملائكة، والله أعلم.
أين صلب خبيب بن عدي ؟
تشير المصادر إلى أن مكان صلب خبيب بن عدي خارج حدود الحرم المكي بعد مسجد السيدة عائشة رضي الله عنها، ولا صحة للأقاويل المتداولة التي تذكر أن مكان صلبه في التنعيم.