إنَّ النسورَ تنظرُ من الأعلى، والنملُ لا ينظرُ إلَّا من القاع، ومع ذلك ترى النسورَ التي في الأعالي غير عابئةٍ بما في رحابة السماوات وتريد سماءً أخرى وترى النَّمل قانعًا بالأغوار والشقوق، وهذه حكمة قصيدة على قدر أهل العزم التي أبدع أبو الطيب المتنبي في كتابتها وسرد حكمتها ومعانيها، وفيما يلي شرحٌ وتحليل لأهمّ ما جاء في هذه القصيدة.
حول المتنبي صاحب القصيدة
أبو الطيب المتنبي (303هـ – 354هـ) هو شاعر عربي عراقي من أعظم الشعراء العرب في كل العصور، ولد في الكوفة بالعراق، ونشأ في دمشق، سوريا، تميز بذكائه المبكر وحبه للشعر، فنظم أول قصيدة له وهو في سن التاسعة،كان المتنبي شاعرًا حكيمًا، وله العديد من القصائد التي تعبر عن الحكمة والفلسفة، كما كان فارسًا مقاتلًا، حيث شارك في العديد من الحروب مع الدولة الحمدانية وكان شخصية قوية ممتلئة بالكبرياء والطموح.
مات المتنبي وترك وراءه تراثًا غنيًا بالشعر العربي الأصيل، حيث ضم أكثر من 300 قصيدة، وتنوعت موضوعات شعره ما بين المدح، والهجاء، والرثاء، والحكمة، والفلسفة، والوصف، فكان شعره غاية في البلاغة، وقوة التعبير، وجمال الأسلوب، ويُعد المتنبي أحد أعظم الشعراء العرب ، وقد أثر شعره في كثيرٍ من الشعراء العرب والأعاجم، وما زال شعره يُقرأ ويُدرس حتى هذا اليوم، ولنا في قصيدته على قدر أهل العزم تأتي العزائم شرح موجز لكل معانيها وسياقاتها.
مناسبة القصيدة
تعدُّ قصيدة على قدر أهل العزم قصيدة مدح كتبها أبو الطيب المتنبي مادحًا سيف الدولة الحمداني، وهو أمير حلب في القرن الرابع الهجري، نظم هذه القصيدة في عام 348 هـ، و مناسبة قصيدة على قدر أهل العزم تأتي العزائم أن سيف الدولة الحمداني قد انتصر على الروم في معركة الحدث.
تبدأ قصيدة المتنبي على قدر اهل العزم بمدح سيف الدولة وذكر صفات العزم والشجاعة التي يتمتع بها، ثم تنتقل إلى وصف المعركة التي خاضها سيف الدولة ضد الروم، وكيف حقق النصر فيها. تنتهي القصيدة بدعوة سيف الدولة إلى مواصلة الجهاد ضد الروم، وتحرير بيت المقدس من أيديهم.
وتعد قصيدة على قدر أهل العزم من أشهر قصائد المتنبي، وأكثرها شهرة في مدح سيف الدولة الحمداني وقد حظيت هذه القصيدة باهتمام كبير من النقاد والشعراء، وقد عدها بعضهم من أعظم قصائد العربية على مر العصور، ولو أنّها كتبت في الجاهلية لكانت من المعلقات التي تعلق على أستار الكعبة مكتوبةً بماءٍ من الذهب.
شرح قصيدة على قدر أهل العزم
أوَّلًا لا بد من قراءة قصيدة على قدر أهل العزم تأتي العزائم pdf كاملةً وتأملها بعناية حتى يسهل على القارئ فهم السياق كاملًا قبل الدخول في أي شرحٍ، ونقولُ إنَّ هذه القصيدة جاءت احتفالًا بانتصار جيش المسلمين بقيادة سيف الدولة الحمداني على جيش الروم وهنا في مطلع القصيدة أراد المتنبي أن يقيم حكمة خالدة وقاعدة كونية للانتصار وجلب الحظ فقال الآتي:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
فاالبيت الأول يعدٌّ من أقوى الصور البلاغية في قصيدة على قدر أهل العزم فهو يذكر أن القدرات والطاقات تأتي إلى الناس وفق عزمهم وإرادتهم، وبالتالي فإنَّ معنى على قدر أهل العزم تأتي العزائم أن الخلق لديهم إمكانات مختلفة تعتمد على إرادتهم وطموحهم، ويقول البيت الثاني إن الأعمال النبيلة والفضائل تتجلى في الناس وفق كرامتهم وسماحة طباعهم، مما يشير إلى قياس نسبيٍّ للقيمة.
ويشير البيت الثالث إلى أن الأشياء العظيمة تبدو صغيرة في عيون صغار النفوس فهذه الصور من قصيدة على قدر أهل العزم تبين كيف تتشكلُ وجهة نظر الفرد وفق إدراكه لحجم الأشياء ومقياسها،فالأشياء العظيمة تبدو هينة في عيون العظماء، مما يعزز مرونة الإدراك وفقا للفرد، وبالتالي فإن رسالة المطلع أن القدرات والفضائل والقيم تختلف نسبيتها وفق وجهة نظر كل فرد وتصوره، فإذا كنت تنظرُ دائمًا للأعلى فأنت طموحٌ ولا ترضى بالقليل، وإذا كنت ضعيف الإرادة فكلُّ شيء صعبٌ.
قوةُّ الدولة الحمدانية
يُكَلِّفُ سَيفُ الدَولَةِ الجَيشَ هَمَّهُ وَقَد عَجَزَت عَنهُ الجُيوشُ الخَضارِمُ
وَيَطلِبُ عِندَ الناسِ ما عِندَ نَفسِهِ وَذَلِكَ مالا تَدَّعيهِ الضَراغِمُ
يشير البيت الأول إلى أن سيف الدولة الحمداني – عمَّ الفارس الشاعر أبو فراس الحمداني – يمنح الجيش الجرأة لتنفيذ مهمته بحماسه وقوة منطقه وسيطرته على الجنود مما يدل على زعامته المهيبة فهو يمنح الجنود الشجاعة والإرادة لأنه من أهل العزم الذي تليق به قصيدة على قدر أهل العزم ويذكر البيت الثاني أن الجيوش المدربة الغفيرة لم تتمكن مما تمكنت منه هذه الجيوش، مشيراً إلى قوة سيف الدولة وتأثيره على جنوده.
ويشير البيت الثالث من قصيدة على قدر أهل العزم إلى أن الحمداني يطلب من شعبه ما يطلبه من نفسه أولاً، مما يعكس شكلا مثاليا من العدالة والمساءلة يُلْهِمُ النَّاسَ الإخلاص والصدق، ويقول البيت الرابع إن هذه فضيلة لا تتمتع بها الحكام الاستبداديون، وهذا ما يميز هذا القائد عن البقية فهو يقود بالحكمة والمثال والتجريب بدلا من القوة والتجبر.
وتدلّ الأبيات السابقة بقصيدة على قدر أهل العزم على معانٍ نبيلةٍ مثل الشجاعة والإرادة تأصلت في سيف الدولة حيث إنّه يضع المثال أولاً فالقائد لا بدّ أن يقيم الحجة على نفسه قبل غيره، والحكم بالعدالة لا الاستبداد، فهذه الفضائل تمنح السلطة مشروعيتها التي لا يمكن للقوة المفردة القيام بها.
الصقور المهيبة في الأعالي
يُفَدّي أَتَمُّ الطَيرِ عُمراً سِلاحُهُ نُسورُ المَلا أَحداثُها وَالقَشاعِمُ
وَما ضَرَّها خَلقٌ بِغَيرِ مَخالِبٍ وَقَد خُلِقَت أَسيافُهُ وَالقَوائِمُ
يشير البيت الأول إلى أن أفضل الطيور يضحي بحياته من أجل سلاحه وهو طائر الصقر، مما يشير إلى أن مخالب الصقر ومنقاره هما سلاحاه، ويستخدمهما بغض النظر عن المخاطر، ويذكر البيت الثاني أن النسور والصقور على حد سواء معروفة بمثل هذه المآثر، مما يدل على أن القتال بشجاعة شائع بين الطيور المفترسة.
ويشير البيت الثالث إلى أنه لا شيء يؤذي هذه الطيور إلا مخالب مماثلة لمخالبهم، مما يدل على أن ما لديهم ليست مفترسات طبيعية وإنما هي طيور مفترسة أخرى تنافسهم في السماء الطليقة، ويصف البيت الأخير مخالبهم وأعضاءهم كأنها خُلقت لهذا الغرض، مبينةً لهم عدوانيتهم وقدرتهم على القتال كوحوش ضارية، وفي المطلق تلتقط هذه الأبيات الطبيعة العدوانية للطيور أمثال الصقور والنسور من خلال صور قوية عن المخالب وكيفية استخدامها بحنكةٍ ودقة.
حكمة الدنيا الغالبة
تفيتُ اللَيالي كُلَّ شَيءٍ أَخَذتَهُ وَهُنَّ لِما يَأخُذنَ مِنكَ غَوارِمُ
إِذا كانَ ما تَنويهِ فِعلاً مُضارِعاً مَضى قَبلَ أَن تُلقى عَلَيهِ الجَوازِمُ
وَكَيفَ تُرَجّي الرومُ وَالروسُ هَدمَها وَذا الطَعنُ آساسٌ لَها وَدَعائِمُ
وَقَد حاكَموها وَالمَنايا حَواكِمٌ فَما ماتَ مَظلومٌ وَلا عاشَ ظالِمُ
يشير المتنبي صاحب قصيدة على قدر أهل العزم في البيت الأول إلى أن الليالي تأخذ كل ما يكتسبُه سيف الدولة لكنها تغرم في نهاية الأمر وتصابُ بالفقر أمامه، على الرغم من أن الزمن يمحو كل شيء وفيه حتمية تأثير الزمن وعدم قدرة الإنسان على إيقافه، إلَّا أن سيف الدولة غالب على أمره كما يدعي المتنبي، فالبيت الثاني يذكر أن ما يأخذه الزمن منه له عواقب، أي أن الفقدان حتمي لكن كل شيءٍ عن سيف الدولة محسوب ولن يغرم شيء بل الدنيا هي التي سوف تغرم.
يستفهم المتنبي في قصيدته على قدر أهل العزم كيف يمكن للروم هدم المدينة وقواعدها ثابتة وأعمدتها قوية، مما يدل على ثبات أساس الدولة، ويذكر البيت الرابع بشكل عام قوة المدينة وثباتها في قواعدها وحاكمها العادل، بينما الروم راغبون في هدمها وهم غير قادرين على ذلك.
اللغة في قصيدة على قدر أهل العزم التي في تلك الأبيات المحددة قصيرة لكنها صورية، تستخدم التشبيه والبناء المتوازي لتوصل رسالة ثبات المدينة وتحديها لمحاولات الهدم بسبب قواعدها الثابتة وحاكمها العادل المتمثل في سيف الدولة الحمداني، ويسأل المتنبي سؤالاً خطابياً للتأكيد على بطلان مثل هذه المحاولات الرومية الفاشلة، مشيراً إلى أن الحضارات المرتكزة على العدل والفضيلة لا تهدم بسهولة.
وتلخيصًا لهذه الأفكار السابقة في قصيدة على قدر أهل العزم فإن الأبيات تحتفي بفكرة المدينة التي صمدت أمام اختبار الزمن حيث يعيش أهلها برخاء وأساسها لا ينهار، فالعدل والثبات والديمومة هم سمات المنظومة الأساسية.