عندما تنتهي فترة حبس أحدهم – سواء كان حبساً حقيقياً أو مجازياً – نقول له مهنئين ((كفارة)) أي جعل الله هذا الحبس كفارة لذنبك وغفر لك، فالكفارة تستر الذنوب وتمحو الخطايا كي تعود نفس المؤمن طاهرة بعد الإثم الذي اقترفه أو المخالفة التي ارتكبها وهو من فضل الله على عباده أن شرع لهم هذه الكفارات التي تمنحهم فرصة التطهير، لكن المهم في الأمر هو تأدية هذه الكفارات على النحو الذي شرعها الله به كماً وكيفاً حتى تحظى بالقبول وتؤتي أكُلها، ولأن الكثير من العوام يخطئون في فهم كفارة الحلف ويؤدونها على وجه غير صحيح وجب تسليط الضوء عليها في هذا المقال.
ما المقصود بـ كفارة الحلف ؟
تشير كلمة الكفارة في اللغة العربية إلى الستر والتغطية دلالة على أنها تستر الذنوب والخطايا، وفي الاصطلاح تطلق الكفارة على ما يقوم به الآثم من صدقة أو صيام أو عتق رقبة أو غير ذلك وفق ما أوضحته الشريعة الإسلامية تكفيراً للذنب الذي تم اقترافه، ومن الذنوب العظيمة التي رتب الشارع عليها كفارة هي الحنث في الحلف أو الحنث في اليمين أي إتيان فعل يخالف مضمون الحلف أو اليمين، وقد سمي الحلف يميناً لأن العرب في الجاهلية كانوا إذا حلفوا أخذ كل منهم بيد صاحبه اليمنى تأكيداً على القسم كون اليد اليمنى أقوى.
وقد اعتاد الناس على توكيد أقوالهم وأفعالهم بالحلف أو اليمين بالله لتقوية عزمهم غير أنهم يضطرون في بعض الأحيان للتراجع عن هذه الأقوال والأفعال وهو ما يوجب عليهم تأدية كفارة الحلف أو ما يعرف بكفارة اليمين، ومن الأخطاء الشائعة المبادرة بصيام ثلاثة أيام تكفيراً للحنث دون معرفة بأحكام الكفارة الصحيحة نتيجة الجهل بالمفاهيم الصحيحة للسنة ومحكم التنزيل.
ما هي كفارة حلف اليمين ؟
قال الله تعالى في الآية رقم 89 من سورة المائدة ((فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ))، والمتأمل في هذه الآية يجد أن كفارة حلف اليمين تكون على الترتيب الآتي:-
1) كفارة الحلف إطعام عشرة مساكين :
توضح الآية السابقة أن كفارة الحلف هي إطعام عشرة مساكين من الطعام الذي يأكله أهل البيت سواء بشراء هذا الطعام وتوزيعه عليهم أو دعوتهم للطعام في البيت، وقد ذهب المالكية والشافعية إلى أن كمية الطعام تقدر بمد واحد أي رطل وثلث الرطل أو رطلين فيما رأى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان أن كمية الطعام تقدر بمدين.
2) أو كسوتهم :
بإمكان الحانث أن يستبدل الإطعام بالكسوة فهو مخير ما بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم حسبما أوضحت الآية الكريمة، وقد أجمع الفقهاء على أن كسوة المسكين تكون بمنحه ما يصلح لستر عورته والصلاة، فالرجل يعطى ثوب – أو ما يقوم مقامه – والمرأة تعطى جلباب وخمار – أو ما يقوم مقامهما -.
3) أو تحرير رقبة :
يخير الله تعالى الحانث أيضاً بين الإطعام أو الكسوة وبين تحرير الرقبة أي عتق رقبة في سبيل الله تكفيراً للحنث، ويشترط لصحة كفارة الحلف في هذه الحالة أن تكون هذه الرقبة مؤمنة معافاة من العيوب التي تمنعها من العمل.
4) كفارة الحلف صيام ثلاثة أيام :
بإمعان النظر في الآية ذاتها نجد أن الله تعالى يقول ((فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ))، فمَن لم يجد يا عباد الله و((مَن)) هنا شرطية، أي يشترط لصحة التكفير بالصيام عدم القدرة على الإتيان بالخيارات السابقة وهي الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة، فالحانث الذي يقبل مباشرةً على صيام ثلاثة أيام رغم قدرته على الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة لا تجزئ كفارته، كما لا يجزئ إخراج الكفارة نقوداً عوضاً عن الصوم أو الإطعام.
متى تصبح كفارة الحلف واجبة ؟
تصبح كفارة الحلف واجبة إذا تم استيفاء الشروط التالية:-
1) إذا كان الحلف صادراً من مكلف بالغ عاقل.
2) إذا كان الحلف على أمر مستقبلي مثل الحلف على عدم الأكل أو الشرب.
3) إذا كان الحلف مقصوداً أما الحلف الذي يجري على الألسنة دون قصد مثل قول لا والله ونحو ذلك فلا يترتب عليه شيء.
4) إذا تم الحلف باختيار دون إجبار أو إكراه.
5) إذا تم العزم على حنث اليمين المنعقدة أي فعل ما يخالف مضمونها.
ما أنواع اليمين ؟
لليمين – أو الحلف – ثلاثة أنواع على النحو التالي:-
1) اليمين المنعقدة :
تعرف اليمين المنعقدة بأنها اليمين التي يعقدها الحالف ليؤكد من خلالها عزمه على فعل ما في المستقبل، وإذا تم الحنث في هذه اليمين وجبت كفارة الحلف لقوله تعالى ((وَلَكِنْ يؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ)).
2) اليمين الغموس :
يشير مصطلح اليمين الغموس إلى الحلف بالله كذباً على أمر في الماضي حتى يصدق الناس أنه حدث وهو لم يحدث في الحقيقة، وتعد هذه اليمين من كبائر الذنوب وسميت غموساً كونها تغمس صاحبها في النار يوم القيامة، ولا كفارة في هذه اليمين لأنها من الكبائر التي لا تغتفر إلا بالتوبة النصوح مع ترديد دعاء غفران الذنوب وعقد العزم على عدم العودة إلى هذا الذنب العظيم.
3) يمين اللغو :
تعبر يمين اللغو عن الحلف غير المقصود الذي يجري على الألسنة بتلقائية وهو ما قال الله عز وجل فيه ((لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ))، لذا لا يترتب على هذا الحلف كفـارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((أنزلت هذه الآية لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ في قول الرجل لا واللهِ وبلى واللهِ))، لكن ينبغي على المسلم أن يضبط لسانه وأن يعظم اسم الله بصيانته عن كل ما فيه استخفاف.
ما هي كفارة الحلف عند الغضب ؟
ضمن الفتاوى المتداولة سؤال البعض عن حكم الحلف بالله وقت الغضب وما إن كان هذا الحلف يقع بحيث يترتب عليه الفعل والترك أم لا، وبيان ذلك بالتفصيل كما يلي:-
1) إذا كان الغضب شديداً لدرجة فقدان الشعور وانغلاق العقل وعدم التمييز فإن اليمين لا تنعقد ولا تترتب عليها كفارة لأن الحالف في هذه الحالة أشبه بالمجنون أو المعتوه الذي يرفع القلم عنه.
2) إذا كان الغضب معقولاً ولا يصل لدرجة فقدان الشعور أو انغلاق العقل أو عدم التمييز فإن اليمين تنعقد ويصبح الحالف مخيراً ما بين تنفيذها أو تأدية كفارة الحلـف المعروفة، أي أن كفارة الحلف عند الغضب هي نفسها كفارة اليمين.
ما هي كفارة الحلف بالطلاق ؟
اختلف جمهور أهل العلم في مسأل كفارة الحلف بالطلاق فرأى بعضهم أن الحالف إذا كان يقصد الطلاق فإن الطلاق يقع في حال حدوث المحلوف عليه، وإذا كان يقصد النهي والزجر فقط فإن الطلاق لا يقع وإنما يعد ذلك بمنزلة اليمين التي تستوجب تأدية الكفارة في حال حصول المحلوف عليه وهو ما استقر عليه رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بيد أن فريقاً من العلماء ذهب إلى وقوع الطلاق في كل الأحوال إذا حصل المحلوف عليه سواء قصد الحالف الطلاق أو لم يقصده، والله أعلم.
هل يجوز التراجع عن الحلف ؟
يتساءل البعض هل يجوز التراجع عن الحلف والجواب هو نعم، يجوز التراجع عن اليمين شريطة تأدية الكفارة، ويؤيد ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام ((مَن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها وليكفر عن يمينه)).
متى يكون الحلف على المصحف باطل ؟
يسأل بعض العوام متى يكون الحلف على المصحف باطل والحقيقة أن الحلف على المصحف ليس له أصل ولا حاجة إليه ولا دليل على مشروعيته.
ما هو الحلف الذي ليس عليه كفارة ؟
أوضحنا سالفاً ما هو الحلف الذي ليس عليه كفارة وهو الحلف كذباً على شيء مضى لم يحصل في الحقيقة، ويعرف هذا الحلف باليمين الغموس إذ إنه يغمس بصاحبه في نار جهنم ولا كفارة له إلا التوبة النصوح، كما أن الحلف دون قصد لا يترتب عليه كفـارة وهو ما يعرف بيمين اللغو.
هل يجب التتابع في الصيام عند تأدية كفارة اليمين ؟
ذهب الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد بن حنبل إلى وجوب التتابع في الصيام عند تأدية كفارة اليمين فيما ذهب الإمام الشافعي والإمام مالك إلى جواز عدم التتابع، والله أعلم.