بلغت أوج المجد في زمنٍ لم تكن المرأة فيه قادرة على صعود السلم الذي يقود إلى المجد فضلاً عن بلوغه, و عندما بلغت المجد لم تتخذه حكراً بل ساعدت غيرها على الوصول فناصرت قضية المرأة و دافعت عن حقوقها و نادت بالتحرر من قيود العبودية دون الانسلاخ عن الهوية, تربعت على عرش القلوب قبل عرش الأدب و القارئ في سيرتها يرى الكثير من العجب, إنها مي زيادة يا سادة صاحبة القلم الباعث على السعادة.
من هي مي زيادة ؟
أي مطلع على الأدب يعرف جيداً من هي مي زيادة ابنة فلسطين ذات الدماء اللبنانية الممزوجة بالدماء السورية و التي عاشت شطراً من عمرها على الأراضي المصرية, و كأن مي أبت إلا و أن تجمع بين جمال القدس و بهاء دمشق و أصالة بيروت و عراقة أرض الكنانة ! فكان من الطبيعي أن يخرج لنا هذا النتاج الأدبي الفذ الذي لم يسمح الزمن بتكراره, لقد كانت والدة مي محقة عندما قالت ((إن مَن ينجب مياً لا ينجب غيرها)).
ربما يتعجب البعض حين يعلم أن مي لم يكن الاسم الأصلي لابنة إلياس زيادة بل كان اسمها ماري و عندما شبت تخيرت لنفسها اسم مي عوضاً عن ماري, و قد حظي العالم بوجود مي – أو ماري – في الحادي عشر من فبراير عام ألف و ثمانمائة و ستة و ثمانين ميلادياً, و كان مجيئها إلى الحياة بين جنبات مدينة الناصرة الفلسطينية التي شهدت مولدها و طفولتها فظلت ذكراها منقوشة في فؤادها.
و في مذكرات مي زيادة اقتباسات عدة تشير إلى تأثرها بمسقط رأسها الناصرة, حيث خاطبتها في المذكرات قائلة ((إيه يا ناصرة, لن أنساكِ ما دمت حية, سأعيش دوماً تلك الهنيهات العذبة التي قضيتها في كنف منازلكِ الصامتة)), إنه موضوع تعبير عن حب الوطن يخبرنا أنه مهما ألِف الفتى من المنازل يظل ولاؤه و حنينه و انتماؤه دوماً للمنزل الأول !
عائلة مي زيادة :
مهما بلغ الإنسان من المجد و السؤدد يظل بحاجة للتعريف عن عائلته, جذوره التي ينتمي إليها, أصوله التي يعرف بها و يعرى في غيابها, و مي زيادة هي ابنة للمعلم اللبناني إلياس زيادة و الفلسطينية ذات الأصول السورية نزهة معمر, و الحقيقة أن العالم مدين لمدينة الناصرة الفلسطينية إذ كانت موطن اجتماع إلياس و نزهة والدي مي الكرام اللذين كرسا كل حياتهما لرعاية ابنتهما الوحيدة بعد أن فقدا أخيها.
و يبدو أن المثل الشعبي الدراج ((اقلب القدرة على فمها تطلع البنت لأمها)) به شيء من الصحة, فقد كانت والدة مي من المولعين بالأدب و حفظ الشعر الجاهلي و الحديث و هو ما أثار إعجاب إلياس زيادة بخلفيتها الثقافية, ليرزق منها بمي التي تشربت من والدتها حب الأدب منذ نعومة الأظافر.
رحلة تعليم مي زيادة :
استهلت مي زيادة رحلتها التعليمية من مدارس الناصرة التي اجتازت بها المرحلة الابتدائية, ثم استأنفت الرحلة في مسقط رأس أبيها لبنان التي التحقت فيها بعدد من المدارس في المناطق المختلفة حتى تخرجت من مدرسة الراهبات الثانوية عام ألف و تسعمائة و أربعة من الميلاد وبعدها نكصت على عقبيها فعادت إلى موطنها الأم الناصرة بفلسطين لتمكث بها مع أهلها قرابة أربعة أعوام قبل أن ينتقلوا جميعاً للإقامة بالقاهرة في مصر.
بمجيء عام ألف و تسعمائة و ستة عشر من الميلاد التحقت مي بكلية الآداب في جامعة القاهرة لتدرس الأدب العربي و الفلسفة و التاريخ, و أتقنت خلال فترة مكوثها بالجامعة اللغة العربية و الفرنسية و الإنجليزية و الألمانية و الإيطالية و الإسبانية, و بدأت في الكتابة بتلك اللغات في الصحف حول القضايا الثقافية المتعددة غير أنها أولت قضية المرأة جل اهتمامها.
و قد فتح مجال التعليم و الصحافة لمي أبواب الصداقة على مصراعيها فتوطدت علاقتها بأدباء و صحفيين و مفكرين كثر أمثال عميد الادب العربي طه حسين و أستاذه أحمد لطفي السيد وأيضاً خليل مطران وغيرهم.
صالون مي زيادة الأدبي :
بعد تخرج مي زيادة من كلية الآداب بجامعة القاهرة انبثقت لديها فكرة تدشين صالون أدبي لعقد الندوات الثقافية و اتخاذه كمنبر للدعوة إلى تحرير المرأة و استقلالها, و بالفعل شرعت مي في تنفيذ الفكرة فعمدت إلى إلقاء خطاب ببهو الجامعة و في نهاية كلمتها أعلنت عن عقد صالون أدبي بمنزلها يوم الثلاثاء من كل أسبوع و دعت المستمعين للحضور فأجابوا دعوتها و باركوا فكرتها و شجعوا مبادرتها.
عُقد صالون مي الأدبي للمرة الأولى في الرابع و العشرين من نيسان عام ألف و تسعمائة و ثلاثة عشر ميلادياً بمنزلها القابع بالطابع العلوي من مبنى جريدة الأهرام القومية, و قد استقطب الصالون جمعاً غفيراً من الشعراء و المفكرين و الأدباء و ثلة من الأثرياء و تولى رئاسته الشاعر المصري إسماعيل صبري, و كانت مي تجلس بصدر الصالون مرحبةً بضيوفها, و لمزيد من الترحاب كانت تقدم لهم القهوة أو شراب الورد, لتكون بذلك أول امرأة تدير صالوناً أدبياً.
و قد استمر صالون مي الأدبي في الانعقاد لمدة تناهز خمسة و عشرين عاماً فكان صالوناً معمراً إذا ما قورن بأي صالون أدبي آخر في بلاد العرب أو الغرب, و الجدير بالذكر أن هذا الصالون كان سبباً في وقوع عدد من مرتاديه في حب مي التي كانت محط اهتمام الجميع لثقافتها الواسعة و فكرها العميق و حوارها الممتع و حديثها الودود, و كان من بين هؤلاء طه حسين و الرافعي و أحمد شوقي.
و على الرغم من كثرة المعجبين المحيطين بمي إلا أن قلبها لم يقع إلا في حب ذاك البعيد الذي لم تجمعها به سوى المراسلات الكتابية و هو جبران خليل جبران الذي خُطت له كل قصائد مي زيادة في الحب و الصبابة.
حياة ماري زيادة العاطفية :
تناثرت العديد من الأقاويل حول حياة مي زيادة العاطفية لكن أبرز ما تناثر حولها دار بشأن هاتين العلاقتين:-
1) مي زيادة وجبران :
جمعت مي زيادة وجبران خليل علاقة عاطفية من نوع خاص فقد تعارفا عبر الرسائل و أعجب كل منهما بأفكار و آراء الطرف الآخر غير أنهما خشيا الإفصاح عن حقيقة مشاعرهما فلجآ إلى التلميح عوضاً عن التصريح و استمرا في تبادل الرسائل لمدة عشرين عاماً تقريباً تجنبا خلالها اللقاء عن عمدٍ على ما يبدو, و قد صدر لجبران خليل كتاب الشعلة الزرقاء الذي يضم كل رسائل جبران الى مي زيادة و التي يبلغ عددها سبعة و ثلاثين رسالة.
و في رسائل جبران إلى مي زيادة اقتباسات عدة منها اقتباس ((الله يسامحك, لقد سلبتني راحة قلبي و لولا تصلبي و عنادي لسلبتني إيماني، من الغريب أن يكون أحب الناس إلينا أقدرهم على تشويش حياتنا)), و قد انتهت هذه العلاقة بوفاة جبران عام ألف و تسعمائة و واحد و ثلاثين ميلادياً مما شكل صدم قوية لمي و عانت الوحدة بقية حياتها.
2) مي زيادة والعقاد :
أما عن علاقة مي زيادة والعقاد فلم تكن معالمها واضحة, فعند قراءة رسائل العقاد لمي زيادة pdf نجد أن مشاعره تجاهها كانت صريحة و تحمل لها الحب الصادق العميق في حين أن مشاعر مي تجاهه كانت غامضة و متزنة و يصعب الحكم عليها.
ما أشهر مؤلفات مى زيادة ؟
من أشهر المؤلفات الصادرة عن مى زيادة رجوع الموجة و باحثة البادية و غاية الحياة و سوانح فتاة و وردة اليازجي و المساواة و الصحائف, بالإضافة إلى كتابات منسية و عائشة تيمور و الأعمال المجهولة و بين الجزر و المد, فضلاً عن ترجمتها لابتسامات و دموع وأيضاً الحب في العذاب.
ما اللغات التي أجادتها مي زيادة ؟
أجادت مي زيادة ثمانِ لغات بجانب إتقانها للغة العربية, و هذه اللغات الثمانية هي اللغة الإنجليزية و الفرنسية و الألمانية و الإسبانية و الإيطالية و السريانية و اللاتينية و اليونانية.
ما أشهر اقتباسات مي زيادة ؟
من أشهر اقتباسات مي زيادة اقتباس ((إني أخاف من الحب كثيراً و لكن القليل من الحب لا يرضيني)), وأيضاً اقتباس ((أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي و أدواتي و كتبي و دراساتي و قد انصرفت بكل تفكيري إلى المُثل الأعلى, و هذه الحياة الأيدياليزم التي حييتها جعلتني أجهل ما في البشر من دسائس)).
متى توفيت الأديبة ماري إلياس زيادة ؟
توفيت الأديبة ماري إلياس زيادة في مستشفى المعادي بالعاصمة المصرية وذلك في السابع عشر من أكتوبر خلال عام ألف و تسعمائة و واحد و أربعين ميلادياً بعد أن قضت ما يناهز الخمسة و خمسين ربيعاً.