لم تكن أزمّة الأمور جميعها في متناول أيدي الأناس، فلو كان الحال هكذا لأصبحت الدنيا فوضويةً، ولكان اختلاف العلماء حول مسألة هل الانسان مخير ام مسير ؟ لا وجود له من الأساس ولكن هذا مخالف في عقيدة الإسلام.
هل الانسان مخير ام مسير ؟
لا زالا القرآن والسنة النبوية خير ما يُستند إليهما من أجل حسم أمور شتى المسائل الدينية التي تتناثر فيها الآراء، فأما عن مسألة هل الانسان مخير ام مسير ؟ فأمرها محسوم منذ قديم الزمان، وهذا ما سنستفيض بالحديث عنه بين طيات أسطر المقال البراقة.
روى أبو سعيد الخدري حديثًا شريفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خطب فقال: “إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده” (رواه البخاري في صحيحه) ولقد جئنا بهذا الحديث لنثبت شيئًا ما لا زلنا واقفين مكتوفي الأيدي أمامه ألا وهو الإنسان أمخير أم مسير؟! فلو تمعن أحدكم النظر في كلمات هذا الحديث لوجد أن العبد قد خُير وهذا دليل على إن الإنسان مخير، ولكن هذا ليس بالرأي الكافي الذي سيؤخذ به وحده.
تشاكل كفتي التخيير والتسيير في الميزان
يقول الامام مسلم في صحيحه إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: “كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة” فأفعال العباد جميعها مكتوبة قبل ولادتهم بآلاف السنوات ورغم ذلك جعل الله تعالى لعباده حرية الاختيار بما تشتهيه أنفسهم، ومن رحمة الله بعباده أنه إذا نهب ما وهب أهلك ما استجوب، وهذا إذا فقد الفرد عقله ففي الحال يسقط عنه ما ألزمه سبحانه.
“فالإنسان مسير ومخير في آن واحد” فأما عن تخييره فلأن الله وهبه نعمة العقل والسمع والبصر والإرادة الذي سيتمكن من التمييز بين الخيور والشرور بواسطتها، وأما عن تسييره ففي أمور القدر والقضاء حيث لا يمكنه التغيير في نسبه وهيئته وفقره وترفه وفطانته وغير ذلك.
آراء جهابذة الإسلام في مسألة الإنسان مسير أم مخير
هكذا يكون أخذ العلم من أفواه العلماء ونوابغ الأعلام، هؤلاء الذين أفنوا أرواحهم في سبيل التفقه في فروع الدين ليكونوا شيوخًا لمَن يخلفهم، وتنتقل ثرواتهم العلمية من جيل لآخر بالتوارث، وها نحن سنستحضر آراء بعض الجهابذة في مسألة دينية غاية في الأهمية ألا وهي سؤال هل الانسان مخير ام مسير ؟
1- رأي إمام الدعاة الشعراوي في هذه المسألة
يقول “إمام الدعاة” الشيخ الشعراوي مجيبًا عن ذاك السؤال الذي وُجه إليه: هل الانسان مخير ام مسير ؟ لا بد من أن نعرف حقيقة المحكوم عليه، فما هو الإنسان أولًا؟ أحد الكائنات الحيّة الموجودة على وجه الأرض والذي تقاسمه الوجود أجناس أخرى ولكنه الأقوى بينهم، فسائر الكائنات الأخرى دومًا ما تكون في خدمته، وتأتي الحيوانات في مقدمة الصفوف قربةً منه تليها النباتات ومن ثم الجماد.
وأردف الشعراوي حديثه ردًا على سؤال هل الانسان مخير ام مسير ؟ قائلًا: لقد تفوق النبات على الجماد بالنمو، وامتاز الآدمي عن الحيوان بفكره، فالأمر الخالي من وجود البديل عنه لا عمل للعقل فيه، إذًا فعمل العقل؛ أفعله أم لا أفعله؟ فما دام هناك بديل فالأمر متروك للعقل لكي يرجح أي الكفتين سيختار، أما غير ذلك فلا عمل للعقل على الإطلاق.
وفي سياق الحديث عن إجابة هل الانسان مسير ام مخير الشعراوي ؟ أكمل الداعية الإسلامي الراحل حديثه متفوهًا: (فبالرغم من كون الإنسان أعلى هذه الأجناس لكنه فيه حيوانية ونباتية وجمادية، وما دام فيه قدر من هؤلاء الثلاثة فمسير فيه).
واختتم حديثه بقوله: (من رحمة الله بي، أن جعلني مسيرًا في ذلك كله، وإلا تؤجل إدارة أجهزة جسمي إلى أن يصير لي عقل، وأعرف أدور أجهزة الجسم، فمن رحمته -عز وجل- جعل الإنسان مسيرًا، ولا عمل له في هذه المسألة).
2- الإنسان مسير أم مخير .. ماذا قال ابن عثيمين؟
لقد سُئل شيخنا العلّامة الكبير ابن عثيمين يومًا ما: هل الانسان مخير ام مسير ؟ فأجاب متحدثًا: (على السائل أن يوجه السؤال لنفسه، هل أرغمه أحد على توجيه هذا التساؤل لغيره؟ هل أُجبر على اختيار نوع سيارته؟ وما شابه ذلك من التساؤلات التي سوف يتبين له جوابها، وسيدرك حينما هل الانسان مخير ام مسير ؟
ثم أردف حديثه قائلًا: “إن ما يفعله الإنسان العاقل من أمور يكون باختياره، واستدل ببعض من آيات الذكر الحكيم: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)”الإسراء:19″ وقوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً )”النبأ:39”.
ويُستمد من الجواب على مسألة هل الانسان مخير ام مسير ابن عثيمين ؟ إن الإنسان مخير، فكل ما يفعله العبد لا يكون سوى باختياره، أما الأمور الواقعة عليه بغير رغبته كالموت والمرض فهي بمحض القدر، وإرادة الله ما تشاء وقوعها.
3- حسم شيخ الإسلام للجدال في هذه المسألة
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ردًا على ما وُجّه إليه من سؤال: هل الانسان مخير ام مسير ؟ إن اختيار العبد لما ينفعه ونزوحه عما يضره يجعله مخيرًا في أمره، فهو مَن يضع مصلحته فوق كل شيء ويقف صامدًا بوجهه أمام ما يعرقل انتفاعه بها، فكيف سيكون الإنسان مسيرًا وهو مَن ألقى بجسده في البئر أو اختار الهلاك لذاته؟ فأين عقله؟! بالتأكيد كان موجودًا حتى أنه قد فكر به واختار إيذاء نفسه بنفسه.
وحينما سُئل هل الانسان مخير ام مسير في ارتكاب المحرم؟ أجاب: مَن يقول إنه مسير فمخطئ، فهو مَن اختار فعل ذلك دون أن يجبره أحد إرضاءً لشهوته، لذا فالعقاب في انتظاره، وهذا كله نابع من جهله لنفسه، فأنت مخير أيها الآدمي فلم يعطك الله -عزة وجل- العقل والمشيئة وحسن التصرف هباءً بل لتصيب الرأي والتفكير، فتميل لفعل الخيرات وتنقشع عن ارتكاب المعاصي.
وفي سياق الحديث عن مسألة هل الإنسان مخير أم مسير ابن تيمية ؟ أردف الإمام الفهامة كلامه متلفظًا: إن الله قد أعطانا العقل وأظهر لنا طريقي الخير والشر ومنحنا حرية الاختيار بين هذين الدربين، وهذا لا يتنافى مع كون الفرد مسيرًا في أمور أخرى كالتي تختص بالأجل وتقدير موعده، فهذه أمور لا يدري بها سوى الخالق {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} وبهذا فالإنسان مسير ومخير في آن واحد معًا.
مخيرون أم مسيرون في مسألة الزواج؟
لم يكن اختلاف آراء علماء العقيدة حول مسألة هل الإنسان مسير أم مخير في الزواج ؟ مانعًا إيانا من تسليط الضوء على الرأي الراجح، فلم ولن تنتصر نيات العباد على الأقدار الإلهية يومًا ما، فكل ما قدّره الله آتٍ وحادث حتى ولو بعد آلاف السنوات، فكثيرًا ما يأبى الأفراد الزواج من أشخاص بأعينهم، ثم تمر الأعوام فتتغير الأحوال ويشاء القدر أن يوفق بين هؤلاء، فهذا هو قدر الله الذي يحدث مهما طال الزمان.
ما الدليل على إن الإنسان مخير من القرآن الكريم؟
جاءت في المصحف الشريف آيات عدة تدل على ذلك منها: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} آل عمران:145.
هل يحاسب الإنسان علام هو مخير فيه؟
نعم؛ فالإنسان يثاب على الحق إن فضّله ويعاقب على الباطل إن سار في طريقه.
ما الفرق بين التخيير المنضبط وغير المنضبط؟
إن التخيير المنضبط ما يبقى فيه الإنسان في ظل الشرع أما غير المنضبط فما يخالف فيه العبد أوامر الشريعة بإرادته واختياره.
ما الرأي الراجح في مسألة الإنسان مخير أم مسير؟
يتمركز الرأي الصائب في أن الإنسان مخير ومسير معًا، فمخير في أمور ومسير في أخرى.