ابن الفارض | كاهن الفكر الذي صنعته العزلة

“صريح الاتحاد الذي هام قلبه بالتائية”، إنه الشاعر الصوفي ابن الفارض الذي استطاعت حصافة قصائده أن تجعل أصمة القلوب تتراقص في رحاب الكون عندما يختلط طنين الأذن بهمس أبياتها، فعلى الرغم من تلاطم أقوال العلماء في وصفه كتضارب الموج في البحور، إلا أن ابن الفارض لم يترك حيلة لأحد في ذم رصانة كلماته، وإن لطخ بعض قامات العرب جزءاً من أشعاره تلك بتهم الإلحاد وخلط الواجد بالموجود، فإن كلمات سلطان العاشقين ما زالت تقبض على أطراف العشق الإلهي الخالص في مصر والشام والحجاز بين طيات يدها.

نبذة عن حياة سليل البقاع الثلاث ابن الفارض

ابن الفارض ما هو إلا اللقب الأبرز لإمام المحبين الذي يعد أيقونة من أيقونات الشعر الصوفي في الدول العربية وقدوة لجميع متبعي هذا النهج من الشعر في شتى بلدان العالم، فاسمه الحقيقي هو ” أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي”، وجمع أسلوب شعره بين إيقاع ثلاث بقاع عربية (الشام، الحجاز، مصر) حيث ولد لأب من أصول شامية (سوري)، وترعرع في كنف التراث المصري الأصيل، أما الحجاز فكانت المنطقة التي تدفق منها شعر ابن الفارض في الحب الإلهي الخالص، وتتمثل أبرز محطات حياته في النقاط التالية:

1) مولد بن الفارض:

كتب القدر على تاريخ مصر أن يستقبل في عام (1181) ميلادياً والموافق (576)هجرياً مولد أهم الشعراء العرب الذين مزجوا سيرتهم بتراثها أبد الدهر، وهو مولد الشاعر المتصوف بن الفارض الذي تعد أشعاره علامة بارزة في تاريخ الأدب العربي، والذي أخذ الحديث عن محدث الشام والحافظ الكبير (ابن عساكر)، كما اشتغل أبو حفص الحموي أيضًا بفقه الشافعية عندما شب بدنه، ثم ترك هذا المنهاج واتجه بعد ذلك إلى التصوف فودع الجموع واتخذ الزهد رفيقاً في عزلته التي دامت طويلاً في أغوار الحجاز.

2) وفاة ابن الفارض والمكان الذي استقبل جثمانه:

قاهرة المعز لدين الله التي استقبلت أولى صرخات ابن الفارض في مهده هي نفسها الأرض التي وارى ترابها جثمانه في مثواه الأخير، حيث توفي إمام المحبين في (1235)ميلادياً أي في عام (632)هجرياً داخل المدينة الفاطمية، وتم تكريمه ودفنه داخل مسجده العريق المتواجد بجوار (جبل المقطم)، ليبقى أثره مزاراً لمن يريد التغول في كيان أشعاره الصوفية، وسبيلاً أيضًا لكل من رأى في كلمات بن الفارض ملاذاً من الوهم المميت وفرصة للعودة إلى الحياة الصادقة.

كيف بدأت مسيرة إمام المحبين مع التصوف؟

إن أشعار ابن الفارض وغيره من أحبة التجريد كشاعر الخمر أبو نواس هي ذاتها الطاقة التي نراها تنبعث من أجساد راقصي المولوية الصوفية، فتلك الحالة التي تجعل أجسادهم تبدو وكأنها محلقة مع الطير في السماء لا بد أنها نتجت عن كلمات لديها القدرة على ملك زمام الروح الحرة، ولا بد أنها اختلطت أيضًا بمشاعر ربانية ولدت في عزلة لا تحت أضواء الشمس التي تشتت وحي الأقلام، فسلطان العاشقين حقاً تجلى وصفه في قول جبران خليل جبران ” كاهن في هيكل الفكر المطلق، أمير في دولة الخيال الواسع، قائد في جيش المتصوفة العظيم”.

بدأت مسيرة بن الفارض مع العزلة بعد أن قرر السفر إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، وحينها شيء ما في قرارة نفسه جعله ينزوي على حاله بعيداً عن العباد داخل وادٍ مترامٍ، ولكن كعادة النور دائماً يأبى ألا يخرج إلا من رحم الظلام، هكذا كانت بداية إمام المحبين مع التصوف وكتابة الشعر عن العشق الالهي، وبعد أن مكث عمر بن الفارض قرابة 15 عاماً في عزلته متجاهلاً للخلق ومتعبداً في حضرة الخالق، قرر أن يأخذ كلماته العاشقة للذات الإلهية إلى النور ويعود بها مرة أخرى إلى بلد الكنانة (مصر).

حقيقة بن الفارض تحت مجهر العلماء

لم تشفع غزارة الكلمات الأدبية الموجودة في أشعار السلطان العاشق له في أي من الأحكام القاسية التي صدرت على شخصه من العلماء في مصر والوطن العربي أجمع، فـ أقوال العلماء في ابن الفارض كانت بمثابة حكم نافذ بالإعدام لموهبته في كتابة الأشعار عن العشق الإلهي، فتلك الأشعار على حد قولهم كانت السبب في ثقل ميزانه الأدبي واندثار ميزانه العقلي الذي صور له تهيئة فلسفة ملحدة وبالية مثل (فلسفة الاتحاد)، والتي تشير إلى أن الكون والإله شيء واحد في الأصل، ولعل أبرز أقوال العلماء عن عقيدة بن الفارض تمثلت فيما يلي:

أولاً: أقوال ابن تيمية عن بن الفارض وعقيدته الصوفية

يؤكد الفقيه والمفسر (ابن تيمية) على أن مذهب ابن الفارض لا يمكن أن يعتد أحد به من المسلمين والموحدين بالله كمذهب ديني، فما هو إلا مجرد فلسفة تدعو إلى الإلحاد حيث إن الخالق منزه عن مخلوقاته ولا يمكن القول بأن الكون هو اتحاد الخالق مع المخلوق، ومن يحاول خلق الاتحاد بين الكون وخالقه في فلسفته كأبي حفص الحموي يعتبره العلماء مخالفاً لنهج الدين الإسلامي ومنكراً لوجود الله – جل وعلا-.

ثانياً: رأي الإمام الذهبي في فلسفة بن الفارض

تحدث الإمام الذهبي –رضي الله عنه- عن بن الفارض في كتابه “سير أعلام النبلاء”، وأصدر عنه في مقولته الشهيرة بعض الألقاب التي أصبحت ملازمة لاسم أبي حفص حتى يومنا هذا، ومن أبرز تلك الألقاب (شاعر الوقت، صاحب الاتحاد الذي قد ملأ به التائية)، كما وصف الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي عقيدة بن الفارض بأنها بلية عظيمة حيث كان ينعق بالاتحاد الصريح في أشعاره، وقال عن اختبائه وراء ستار الصوفية أيضًا (تحت الزي والعبادة: فلسفة، وأفاعي).

أشهر القصائد الصوفية التي كتبها ابن الفارض

تنوعت قصائد ابن الفارض بين قصائد العشق الإلهي والملذات الدنيوية، فهناك بعض القصائد التي أجزم العلماء بأنها لا تصلح لتكون أشعاراً صوفية كُتبت لمخاطبة الزاهدين مثل قصيدة (قلبي يحدثني)، فيبدو أن إمام المحبين كان بارعاً حقاً في مزج أهوائه بالفلسفة التي اتبعها، حيث ظهر ذلك الأمر في الكثير من القصائد التي كتبها مثل ” قصيدة سقتني حميَّا الحبِّ راحة مقلتي”، ” قصيدة نعم بالصبا”، ” قصيدة ما بَينَ ضالِ المُنحَنى وظِلالِهِ”.

أولاً: قصيدة ابن الفارض قلبي يحدثني

يُقال إن (قلبي يحدثني) هي قصيدة غزلية دنيوية كتبها الشاعر الصوفي بن الفارض حتى يصف بها إعجابه بإحدى زوجات القضاة الموجودين في مصر حينذاك، وحصدت تلك القصيدة شهرة واسعة فيما بعد فهي حتى اليوم تعد واحدة من أجمل القصائد التي كتبها السلطان العاشق وترنم بها أشهر المبتهلين مثل (النقشبندي)، حيث لاقت أبياتها استحساناً كبيراً من قبل القراء والشعراء، ومن الأبيات التي وردت في بداية القصيدة ” قلبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ .. لم أقضِ حقَّ هَوَاكَ إنْ كُنتُ الذي لم أقضِ فيهِ أسى ومِثلي مَن يفي”.

ثانياً: قصيدة (صدُّ حمى ظمئي لماكَ لماذا)

تعد قصيدة (صدُّ حمى ظمئي لماكَ لماذا) أبرز القصائد التي تتصدر قائمة كتاب المختار من أجمل أشعار ابن الفارض الذي قام بتأليفه (علي بن محمد بن عمر بن علي، سبط ابن الفارض)، ومن أشهر أبيات تلك القصيدة الصوفية لسلطان العاشقين ” تَهْذِي بهذا البَدرِ في جَوِّ السّما .. خَلِّ افْتِراكَ فذاكَ خِلّي لاذا .. عَنَتِ الغزالَةُ والغَزَالُ لِوَجْهِهِ .. مُتَلفّتاً وبه عِياذاً لاذا”.

قصائد ابن الفارض في مدح الرسول

كرس العديد من الكتاب موهبتهم الشعرية لمدح الرسول –صلى الله عليه وسلم- منذ أن أنار بهديه النبوي العالم الإسلامي وحتى الآن، ويعد قلم ابن الفارض أحد الأقلام الصوفية التي انبرت من أجل كتابة أجمل ماقيل في مدح الرسول بعد وفاته، ولكن على قدر رقة المديح الذي صدر من قلم إمام المحبين في وصف ضياء الكون وأشرف المرسلين، إلا أن الأدباء اعتبروا مديح الشاعر الصوفي مغالاة في بيان تعلق فؤاده بحب الرسول، ولعل أشهر الأبيات التي خطها ابن الفارض في مدح النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- تتمثل في الآتي:

1) “سماه طه وحض الأنبياء على .. حج المكان الذي من أجله عمره”.

2) ” في كل فاتحة للقول معتبرة .. حق الثناء على المبعوث بالبقرة”.

تائية ابن الفارض

تجتمع بعض الآراء على أن لقب “سلطان العاشقين” استحقه ابن الفارض بجدارة بعد كتابته للتائية الكبرى التي نظم أبياتها على البحر الطويل، والتي تعد أيضًا أبرز أشعاره عن الحب الإلهي المجرد، فيقول إمام المحبين في مطلعها (سَقَتني حُمَيَّا الحُبَّ راحَةَ مُقلَتي .. وَكَأسي مُحَيَّا مَن عَنِ الحُسنِ جَلَّتِ .. فَأَوهَمتُ صَحبي أنَّ شُربَ شَرابهِم .. بهِ سُرَّ سِرِّي في انتِشائي بنَظرَةِ)، وقد بلغ عدد أبيات (التائية) لابن الفارض قرابة (760)بيتاً، وتعتبر تلك القصيدة أهم القصائد الصوفية التي تتمتع بالأسلوب السلس والكلمات الأخاذة.

لماذا لقب الذهبي بن الفارض بالفالوذج المسموم؟

رأى الذهبي أن أشعار بن الفارض عن الاتحاد عبارة عن استعارات رقيقة تشبه الفالوذج المسموم، والفالوذج هو نوع من أنواع الحلوى الفارسية لذيذة الطعم.

ما الذي تعنيه عبارة وحدة الوجود؟

يعتقد المتصوفون وعلى رأسهم ابن الفارض أن الله سبحانه وتعالى والكون شيء واحد لا يتجزأ، وهذا يعد في الدين قبح عقيدة.

هل تخلى إمام المحبين عن الزهد؟

نعم، حيث إن التفاف كبار الدولة حوله في ساحة الخطابة جعله يبتعد عن الزهد ويلتفت إلى مظهره، فأصبح يرتدي أفضل الثياب، كما راق له مشاهدة الأصيل على البحر ومراقصة الشبابة في جواره بالبهنسا.

ما هي أبرز صفات بن الفارض؟

ذُكِر عن بن الفارض انه كان جميل الهيئة وحسن الملامح، كما تميز طبعه بالرقة والكرم وكان يحب مخالطة الناس والتحدث معهم.

مواضيع ذات صلة

مي زيادةكواليس من حياة معشوقة الأدباء مي زيادة

 أويس القرنيماذا قال رسول الله عن أويس القرني  ؟