ابو العتاهية | الشاعر الذي أيقظه الزهد من غفلة اللهو

ابو العتاهية

يقولون عنك ابو العتاهية وهذا ما ليس فيك .. فكيف جال بخاطر منزوع الهوى أن يهجوك؟!، أزلتك في الحياة أنك هِمتَ جهراً؟، أم هذا زمل زمانك خشي لسانك فأراد من لوثة العقل أن يدنيك!، ونسى هذا المهذار أن سحر قلمك كالإعصار يأتي للعدو كاسحاً .. ويأخذ في مهبه من تأبن خطيئتك متعمداً، فلا يترك على أسطر التاريخ إلا من يطريك، وتراني أنا على جرف عصر لم يعهدك أترك من كَتب محاسن الشعر أمام عيني وأجتبيك، .. لله در “عتبة” يا إسماعيل أنها أودعتك للشعر حتى يَطُبّ قلبك، وللزهد كي يشفيك.

إلماعة مختصرة عن نشأة وحياة أبو العتاهية

لم يخط ابو العتاهية خطوته الأولى على بساط تلك الدنيا بهذا اللقب الذي يشبه دهاليز الكبار بمعانيه المتبدلة على حسب الأهواء، بل إن اسمه الحقيقي الذي لازمه في مهده هو “إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان العنزي”، ولُقب بأبي القاسم، أبي إسحاق، وكان أبوه يشتغل بالحجامة (نبطياً) في مسقط رأسه بالقرب من قرية الأنبار، ولكن أبا إسحاق فضل أن يلتحق بمهنة أخيه (زيد) الذي كان يصنع الجرار بدلاً من السير على خطى أبيه، وذلك قبل انتقاله إلى الكوفة ولحاقه بركب الخلفاء من خلال مدحه لهم في أشعاره، وفي السطور القادمة سوف نسرد إلماعة مبسطة عن أبو العتاهية وأبرز محطات حياته التي تمثلت فيما يلي:

أولاً: أصل ابو العتاهية ومولده

ولد ابو العتاهية عام (130) هجرياً (747) ميلادياً في مدينة (عين التمر) التي تقع جغرافياً داخل حدود محافظة (كربلاء) العراقية وهي الأرض التي استقر على جرفها أمجاد العديد من العظماء كسيد الشهداء “الحسين بن علي بن أبي طالب” –رضي الله عنه-، ويُنسب أصل إسماعيل بن القاسم إلى قبيلة عنزة ولكن الاختلاف في أصله دار بين العلماء في رأيين (هل هو عنزي بالولاء أم عنزي صليبة؟)، وتم الأخذ بالرأي الذي يفيد بأن أبو العتاهية (عنزي صليبة) وفقاً لما قاله عنه ابنه (محمد).

ثانياً: نشأة أبو العتاهية وبداية تنظيمه للشعر

كان أبو العتاهية أحد مقدمي المولدين من طبقة أبو نواس وبشار بن برد، وظهر نبوغه في فنون الشعر والأدب منذ أن انتقل مع أسرته إلى الكوفة، كما أنه في بداية حياته الأدبية كان من اتباع (الظرفاء الكوفيين)، وعلى رأسهم (الوالبة بن الحباب) الذي اشتهر بطبعه الماجن وحبه للهو والخلاعة، ولكن سرعان ما توقف أبو العتاهية عن مخالطة هؤلاء الظرفاء وانتقل إلى “بغداد” ليبدأ من طرفها كتابة اسمه بحروف نورية في تاريخ الشعر العربي، حتى أنه ذُكر في كتاب أبو العتاهية حياته وشعره pdf أن الخليفة هارون الرشيد قام بسجنه عندما امتنع عن الكتابة حتى يعود إليها من شدة بلاغة ألفاظه وأبياته.

ما هو السر الذي يكمن وراء كنية أبو العتاهية ؟

” إِنّي لَأَعجَبُ مِن حُبٍّ يُقَرِّبُني .. مِمَّن يُباعِدُني مِنهُ وَيُقصيني”، فإن كان لغز  تلقيب عنزي صليبة بـ ((أبو العتاهية)) هو ولعه بالعلم واللغة لدرجة أن يخط قلمه مثل هذا البيت الذي يشبه الطير الصداح في سماء الشعر، فالعجب الحقيقي هنا هو ألا يتعته من يقرأ تلك الكلمات في حب ثراء بن القاسم الأدبي، فعشق أبو إسحاق للشعر والأدب كان أحد الأسباب التي يُقال إنها كانت السر وراء إطلاق لقب أبي العتاهية عليه، بالإضافة إلى بعض الأسباب الأخرى البارزة كالتالي:

1) غلبت كنية أبو العتاهية على إسماعيل العنزي في ريعان شبابه بسبب ولعه الشديد بالخلاعة والمجون، وظلت تلك الكنية تلاحقه حتى بعد أن ترك سبيل الملذات واتجه إلى دروب الزهد والتنسك.

2) هناك بعض وجهات النظر التي تؤكد بأن قول الخليفة المهدي لأبي إسحاق ” أَراك مُتَخلِّطاً مُتَعتِّهاً” كان بسبب تعتهه بحب الجارية ((عتبة))، والتي كتب في عشقها إسماعيل العنزي أرقى أشعاره الغزلية.

3) بعض العلماء يقولون إن كنية أبي العتاهية لاحقت أبا القاسم بعد أن رزقه الله –سبحانه وتعالى- بطفل سماه (عتاهية)، ولكن ذلك القول يعد أحد الأقوال الضعيفة كون أن الكنية الصحيحة في تلك الحالة تصبح “أبو عتاهية” دون إضافة الألف واللام.

ابو العتاهية

ابو العتاهية

أبرز مسارات الشعر التي اتجه إليها ابو العتاهية

تنوعت أشهر أشعار أبو العتاهية بين شعر الزهد وشعر الغزل، وهنا يمكننا القول بأنه بات بين أيدينا دليلاً صادقاً على أن أبا إسحاق لم يكن يكتب الشعر ولكنه كان يستغل مهاراته الأدبية في ترجمة المشاعر التي لاذت بقلبه في جميع محطات حياته، حيث إن أبرز المواقف التي أثرت بأبو العتاهية وكتب من أجلها أجل أبياته كانت تتمثل في الحب والورع، وهذا ما يفسر أن بلاغة شعر أبو العتاهية عن الدنيا وترك ملذاتها بعد فقدانه للأمل في بلوغ طيف الحبيب تتشابه مع قوة أشعاره الغزلية من حيث التأثير، ولعل أبرز أبيات أبو القاسم في الغزل والزهد تتمثل في الآتي:

أولاً: شعر أبو العتاهية في الحب

كتب أبو العتاهية الشعر في حقول متعددة مثل أبياته في مدح الخلفاء (المهدي، الهادي، هارون الرشيد)، وأشعار المناسبات، العتاب، الموت، الرثاء، الزهد، الهجاء، ولكن طبيعة السهام الحادة التي لاصقت أسلوب أبي إسحاق جعلت أشعاره في الغزل والحب تخترق القلوب أولاً، كون أن تلك الأشعار الرهيفة كانت الانطلاقة الأقوى في تاريخ أبي العتاهية منذ أن بدأ في تنظيم الشعر، حيث إن الحب كان جليس أبي العتاهية الوفي قبل أن يجبره وجهه الآخر على بدء رحلته نحو الزهد، فأبو العتاهية مال قلبه لأول مرة في الكوفة وخار ميزانه تماماً على أرض بغداد كما يلي:

1) يفترض الأدباء أن تنظيم ابو العتاهية للشعر الغزلي بدء مع قصة حبه الأولى في الكوفة، والتي جمعت أحداثها بينه وبين امرأة تدعى (سُعدى) كانت تنوح على أهل القبور، ولكن الشعر الذي كان ينظمه أبا إسحاق لحبيبته الأولى إرهاصاته كانت الوعظ والتزهيد في حب الدنيا، حيث كانت سُعدى تستخدم أشعار أبي العتاهية في رثاء الموتى.

2) الحب الذي أكل حشاشة قلب أبو العتاهية

من منا كان يعلم أن الشاعر الذي يعد مضرب المثل في الزهد هو نفسه الشخص الذي استعمر بدعائه السماء كي يستجيب له الله –عز وعلا-، ويبني له ولو كوخاً صغيراً في قلب “عتبة” حبيبته التي لم ينلها إلا في أشعاره، والتي شاهدها لأول مرة أبو العتاهية في قصر “الخليفة المهدي” فكانت عتبة تعمل كجارية لزوجته، وكتب في وصفها أروع أبياته عن الحب حيث قال (إِخوَتي إِنَّ الهَوى قاتِلي .. فَيَسِّروا الأَكفانَ مِن عاجِلِ)، وكتب أيضًا أبو إسحاق أدمى كلام عن الخذلان بعد أن رفضت عتبة حبه لها، وقال في وداعها قبل أن يرتمي بآلامه في أحضان الزهد ما يلي:

(( قَطَّعتُ مِنكَ حَبائِلَ الآمالِ .. وَحَطَطتُ عَن ظَهرِ المَطِيِّ رِحالي))

(( وَيَئِستُ أَن أَبقى لِشَيءٍ نِلتُ مِم .. ما فيكِ يا دُنيا وَأَن يَبقى لي))

ثانياً: شعر ابو العتاهية عن الزهد

اهتم أبو إسحاق في مقتبل عمره بكتابة الأشعار في مدح خلفاء بني العباس وسلاطين بغداد، حتى يتقرب من بلاطهم ويحصل على الاحترام الذي لم ينله كبائع للجرار بين أغوار الكوفة، ولكنه اختتم أيامه بأشعار الزهد تاركاً ورائه آلاف الكلمات المؤثرة في النفوس البشرية، فقبل كل قصائد أبو العتاهية في الزهد هناك قصيدة ” من يعيش يكبر ومن يكبر يمت ” الذي يقول في مطلعها الدرير (مَن يَعِيش يَكبَر وَمَن يَكبَر يَمُت .. وَالمَنايا لا تُبالي ما أَتَت .. كَم وَكَم قَد دَرَجَت مِن قَبلِنا .. مِن قُرونٍ وَقُرونٍ قَد مَضَت)، ولعل من أبرز قصائده الأخرى الدمثة في الزهد ما يلي:

1) قصيدة “الخير مأمول عند الله”.

2) قصيدة “المرء آفته هوى الدنيا”.

3) قصيدة ” أليس قريبا كل ما هو آت”.

شعر ابو العتاهيه عن الصبر

لم نعهد أحداً في الشعراء العرب استطاع أن يكتب قصيدة من بيت واحد عن الصبر يصف فيه أبلغ معانيه وحِكمه سوى أبي العتاهية شاعر الخلفاء وجليس النوابغ، فقال أبو إسحاق في قصيدته الرفيعة عن الصبر ” فَقَصِّر ما تَرى بِالصَبرِ حَقّاً .. فَكُلٌّ إِن صَبَرتَ لَهُ مُزيلُ”، فالوصف هنا في البيت وقور والكلمات رزينة أما الأسلوب جليل وينم على أن كاتبه ارتوى من فخر لغة الضاد حتى فاض سيل عظمتها على سطوره الوجيهة.

شرح شعر أبو العتاهية عن الموت

يتضمن موروث ابو العتاهية الأدبي الكثير من الأشعار المؤثرة عن الموت والنهاية الحتمية لكل إنسان، ولعل أبرز تلك القصائد هي التي كتب في مستهلها أبو إسحاق (عَمْرُكَ، ما الدّنيا بدارِ بَقَاءِ .. كَفَاكَ بدارِ المَوْتِ دارَ فَنَاءِ)، وفي تلك القصيدة استغل أبو القاسم العنزي موهبته المتجلية في الشعر وأساليبه الفنية الفريدة حتى يقدم لنا وعظ خالد عن الحياة الفانية والموت الأبدي، فأراد منا أبو العتاهية في مجمل أبيات قصيدته أن نتعظ من سكان القبور، ونجعل من صرخات ندمهم على الأيام الغافلة صحوة لنا ونحن على وجه الدنيا.

متى وأين توفي أبا العتاهية؟

توفي إسماعيل بن القاسم العنزي المكنى بأبي العتاهية في عام 211 هجرياً داخل مدينة بغداد التي عاش بها بعد انتقاله من الكوفة.

هل تزوج أبو إسحاق من عتبة؟

لا، فعندما عرض الخليفة المهدي ومن بعده هارون الرشيد على عتبة أمر زواجها من أبي إسحاق رفضت هذا الأمر تماماً.

لماذا رفضت عتبة حب أبي العتاهية؟

قامت عتبة جارية الخليفة المهدي برفض حب أبي العتاهية لها رغم رصانة ألفاظه في وصف حبها بسبب عمله في بيع الجرار.

هل أثنى الشعراء على أسلوب أبي العتاهية؟

نعم، فهناك الكثير من الشعراء والعلماء الذين قاموا بالثناء على أسلوب أبي العتاهية في الكتابة، ومنهم ابن الأعرابي، أبي زكريا الفراء، سلم الخاسر، أبو نواس.

مواضيع ذات صلة

ابن القيمابن القيم | دراسة شاملة حول حياة وإرث العالم الإسلامي المميز

أبو القاسم الشابيأبو القاسم الشابي : سيرة الشَّاعِر الثَّائِر والعاشِق المرهف