أراك عصي الدمع : شرحٌ وتحليلٌ

أراك عصي الدمع

هل يحبُّ العصفورُ الغناءَ في القفَصِ؟ بالتأكيد لا، فهو ليس حُرًّا؛ إنَّه يشتاقُ إلى الشجرةِ التي بها أعشاشُ أصحابهِ، الشجرة الأمُّ، الشجرةُ الوطنُ، عصفورُنا هو أبو فراس الحمداني وأغنيتهُ كانت أراك عصي الدمع التي غناها في أثناء أسره من قبل جيش الروم، فمن أين ابتكرَها وكيفَ كتبها ولمن؟ قصيدة من أصدق القصائد العالمية فدعونا نسلط الضوء على قصتها كاملة.

نشأة الشاعر صاحب القصيدة

وُلِدَ أبو فراس الحمداني في القرن العاشر الميلادي تحديدًا في سنة 932م  أو 320 هـ، مات أبوه وهو في سنٍ صغيرةٍ لكنَّ عمَّه سيف الدولة الحمداني قد تولَّى رعايته منذ ذلك الوقت في ظلال الدولة الحمدانية في شمال سوريا والعراق والتي كانت عاصمتها حلب ذلك الوقت.

منذ صغره أظهر أبو فراس الحمداني موهبة عظيمة في الفروسية والرماية، بالإضافة إلى موهبته الكبرى في نظم الشعر حتّى إنّه كان يشارك الشعراء الكبار في مجالس الأدب واللغة والعلم بل ويباري اقوال المتنبي ويتحداه في النظم، وقد تميز شعره بسلاسة الألفاظ وصدق العاطفة، إذ كان يتجنب الابتذال والمجاملة ويعتمد على الألفاظ الجميلة والمعبرة عمَّا بداخله من عواطف جياشة كما كرّس نفسه للفروسية والأدب، مما جعله يكتسب لقب الشجاعة والحنكة كأنّه ربّ السيف والقلم.

كتابات أبي فراس الحمداني الشعرية

يعدُّ أبو فراس الحمداني من الشعراء الكبارِ الفصحاءِ، حيث أنتجَ أكثر من 70 نصاً شعرياً، ولم يلتزم بحرًا واحدًا فقط بل كتبَ على معظم البحور الخليلة من بسيطٍ وطويل -الذي عليه قصيدة – أراك عصي الدمع – وكامل ووافر وغير هذه البحور، وقد تميز شعره بجمال الألفاظ وعمق المعاني، وقد وصفه الصاحب بن عباد بأنه “بدأ الشعر بملك وانتهى بملك”، أشار بهذا القول إلى أن أول من بدأ فن الشعر كان الملك أمرأ القيس وأنه وصل ذروته عند أبي فراس الحمداني.

وقد جمع ابن خالويه بعض شعره في مخطوطٍ، وكذلك الثعالبي فعل الأمر نفسه، حيث طبع ديوانه في بيروت مرتين أواخر القرن الـ 19 واكتملت طباعته في دمشق سنة 1944م، منها قصيدته أراك عصي الدمع ، كما تُرْجِمَ ديوانه إلى بعض اللغات الأجنبية، وقد تأثر شعر أبو فراس الحمداني بالمتنبي، حيث عاش في نفس الفترة الزمنية وتشابكت مساراتهما، مما أدى إلى حدوث تأثير كبير من المتنبي على شعر أبي فراس، لكن شعره تميز بعدم التكسب والمجاملة، مما جعله يتجنب الفخر الزائف والتصنع في قصائده.

الروميات الحمدانية

من الثابت أنَّ أبا فراس الحمداني كتبَ مجموعة من القصائد عرفت فيما بعدُ باسم “الروميات”، عندما كان أسيرًا في بلاد الروم التي منها أصل الشاعر العربي ابن الرومي من جهة الأب، وقد عُدَّت هذه القصائد الرومية من الجواهر العربية ذلك أنّ أبا فراس كتبها بمنتهى الصدق العاطفي والتجربة الحية والحكمة البديعة، وضمن هذه الروميات كتب ابو فراس الحمداني اراك عصي الدمع فهي تعدُّ حجر الأساس للقصائد الرومية، وقد قال عنها كثيرٌ من النقَّاد إنَّها من القصائد العالمية وليست العربية فقط.

مناسبة قصيدة أراك عصي الدمع

في أثناء إحدى المعارك بين الدولة الحمدانية و الروم أحاط جيشٌ غفيرٌ من الروم كتبية أبي فراس الحمداني وأجبروهم على الخضوع والاستسلام من ثمَّ وضعوا الأغلال في أيديهم وأعناقهم وجرجروا الكتيبة بالكامل محمولة في الأسرِ وضمن هذه الكتبية أبو فراس الحمداني، ظلَّ أبو فراس الحمداني أسيرًا لفترةٍ طويلةٍ جدًا حتَّى يئس من أسرِه وأخذ يكتبُ الأشعار والرسائل ويتذكر أهله وأحبابه ويتسلَّى بأطيافهم وخيالاتهم وضمن هذه القصائد قصيدة أراك عصي الدمع فإليك شرح واعراب قصيدة أراك عصي الدمع :

مناجاة الذات

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ
بَلى أَنا مُشتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَةٌ     وَلَكِنَّ مِثلي لايُذاعُ لَهُ سِرُّ

نستطيع أن نرى في جملة أراك عصي الدمع شيمتك الصبر بلاغة متينة السبك اللغوي فهي تتبع النمط التقليدي للقصيدة العربية وتضمُّ مشاعر كثيرة مثل الحنين والحب غير المتبادل والسرية، وتبدو الصور الشعرية متنوعة مثل صورة الدموع فهي: ترمز لعواطفه المكبوتة، وعاطفة الصبر فهو مجاز لتجاهل المحبوب
والعطش أو اللوعة: فهو يمثل حبه وشوقه، أما السر فهو يشير إلى مشاعره الخفية وحبه غير المكتمل.

ومهد الشاعر قصيدته بلهجة حزينة ممزوجة بالاستسلام، فيبدو أن الشاعر يتقبل استحالة الحب لكنه لا يستطيع إخفاء مشاعره، وقد تباينت مشاعره في أكثر من مناسبة منها تضاد الشاعر في شوقه (أنا مشتاق) مع جفاء المحبوب (ما للهوى نهي عليك ولا أمر)، مما يخلق إحساسا بعدم التوازن وبشوق غير محقق، فهذه الأبيات تصور موضوع الحب غير المتبادل بطريقة بسيطة وسلسة.

ويبدو أن جملته أراك عصي الدمع لم تنبع إلَّا من سليقته العربية الأصيلة التي لا تعني إلَّا بالصبر والكبرياء والعزة والكرامة التي تمنع الرجال من البكاء إظهارًا للجلدِ والع

وحيدٌ مع الليل

إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى   وَأَذلَلتُ دَمعاً مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ
تَكادُ تُضيءُ النارُ بَينَ جَوانِحي         إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ

يصف أبو فراس مشاعر الشوق الشديدة التي تسيطر عليه عندما يجنُّ الليلُ، ففي البيت الأول يقول “إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى”، معبرا عن كيفية استيقاظ الليل ورغبته وتشوقه، وفي البيت التالي يذكر الدموع التي تسقط من كبريائه، حيث قال باستنكارٍ أراك عصي الدمع ، مشيرا إلى أن حبه هائل إلى درجة إنتاج دموع غزيرة، ولكن هذه الدموع تشير أيضا إلى شعوره بعدم كفايته أمام محبوبه، فهو لا زال يحبُّها وهي لا تزالُ تصدُّه.

قسوة المحبوب

مُعَلِّلَتي بِالوَصلِ وَالمَوتُ دونَهُ      إِذا مِتَّ ظَمآناً فَلا نَزَلَ القَطرُ
حَفِظتُ وَضَيَّعتِ المَوَدَّةَ بَينَنا      وَأَحسَنَ مِن بَعضِ الوَفاءِ لَكِ العُذرُ
وَما هَذِهِ الأَيّامُ إِلّا صَحائِفٌ         لِأَحرُفِها مِن كَفِّ كاتِبِها بَشرُ
بِنَفسي مِنَ الغادينَ في الحَيِّ غادَةً   هَوايَ لَها ذَنبٌ وَبَهجَتُها عُذرُ

يعلن الشاعر أن سبب حبه وشوقه هو الاتحاد مع المحبوبة، وأن الموت دونها مقبول، ويؤكد حرصه على الوصال، ومقابلتها بأي الطرق، فيقول ويؤكد على ذلك  “إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر” أي إنه مستعد للموت عطشًا لها دون أن ينالها، وهذا يعبر عن حدة شوقه وحبه، ويدعي أنه حفظ مودته لها وهي التي أضاعت مودتها له، ولكن لها عذر في ذلك، مما يشير إلى تقبله لهذه العاطفة الباردة والقسوة الغائرة، ويمدح عذرها فيقول إن الوفاء الذي قدمته هو أفضل من بعض الوفاء، مما يدل على عمق حبه لها.

ولكنه يقرر في نهاية الأمر أن هذه الأيام ليست سوى صفحات كتبها بشر، أي إنه يرى حياته وأيامه عبثية، لقد بدأ كتابة القصيدة بـ أراك عصي الدمع لكنه في النهاية ينتهي إلى اليأس والاستسلام وهذه تعبر عن الحالة العاطفية العامة التي كان يشعر بها أبو فراس الحمداني في ظل أسره بالروم، أن الحياة عبثٌ وأنَّ كل شيء من حوله عبثٌ ما دام هو مبتعد عن أهله ووطنه ومحبوبته، ومادامت حريته ليست ملكه.

وليذهبِ الوشاةُ بعيدًا

بَدَوتُ وَأَهلي حاضِرونَ لِأَنَّني          أَرى أَنَّ داراً لَستِ مِن أَهلِها قَفرُ
وَحارَبتُ قَومي في هَواكِ وَإِنَّهُم      وَإِيّايَ لَولا حُبَّكِ الماءُ وَالخَمرُ
فَإِن يَكُ ماقالَ الوُشاةُ وَلَم يَكُن       فَقَد يَهدِمُ الإيمانُ ماشَيَّدَ الكُفرُ

يقول أبو فراس الحمداني في قصيدة أراك عصي الدمع إنَّ الدار التي أعيشُ فيها وأحيا فيها إن كنت أيتها الحبيبة لست موجودةً بها ولا أراك حولي فهي دارٌ قفرٌ أي دارٌ موحشة لا أنيس بها ولا حبيب، وفي البيت الثاني يقول إنه حارب قومه من أجل حبها، ولولا حبه لها لكان الماء والخمر هو ما يصحو وينام عليه مما يبين أن حبها هو الدافع والسبب في الحياة، أما في البيت الثالث يقول إن كان ما قاله المتربصون صحيحاً فليس ذلك أمراً، فالإيمان يهدم ما بناه الكفر، إذ أصبح يبتعد عن أهله ويحارب قومه من أجلها.

ظهور الغدر والخيانة

وَفَيتُ وَفي بَعضِ الوَفاءِ مَذَلَّةٌ     لِإِنسانَةٍ في الحَيِّ شيمَتُها الغَدرُ
وَقورٌ وَرَيعانُ الصِبا يَستَفِزُّها      فَتَأرَنُ أَحياناً كَما أَرِنَ المُهرُ

قال الشاعر عبارات عن الوفاء في محبوبته لكن هذا الوفاء مهما كان من فعلٍ نبيلٍ فهو عار عليه لأنّه لإنسانةٍ خائنة غادرة، وهذا يعكس إحساسه باستصغار موقفه العاطفي تجاهها رغم ولائه لها، ثم يصفها بأنها هادئة وجميلة، بحيث إن نضوجها البدني وشبابها يجعلنها تتكبَّرُ، ويقول إنها أحيانا تتصرف كالنسر الذي يصطادُ الفريسة من فوق، مما يدل على استغلالها له، فيوضح أبو فراس في هذه الأبيات مدى شعوره بالذل تجاهها، رغم وفائه، بسبب شخصيتها المتكبرة و تصرفاتها المستهزئة به مما يعكس ضعف حبها لها.

مواضيع ذات صلة

عميد الأدب العربي الفصل الثالثعميد الادب العربي “طه حسين” … مسيرة أدبية زاخرة بالإنجازات

أولاد حارتناأولاد حارتنا | الصراع الأبدي بين الخير والشر