إرادة الحياة ورومانسيّة القرن العشرين

إرادة الحياة

تحت الأرضِ العاطشةِ للنوّرِ والمطرِ، تستريح بذور الأمل، وهي تشتاق للحياة والنمو والازدهار، وتحلم باليوم الذي تشرق فيه الشمس، وتطل على الدنيا بألوانها الزاهية إنّها إرادة الحياة التي حملتها البذور متطلعةً للإنبات والنمو والإزهار، فلينظر الإنسان إلى البذرة الصغيرة، كيف نمت في ظلامٍ دامسٍ حتَّى صارت شجرةً تصادِقُ الشمسَ والغيم، هكذا يريد أبو القاسم الشابي أن يعلنَ في قصيدته الخالدة عن الحياة الجميلة التي تأتي بعد انتظارٍ طويلٍ ومعاناة لا تحتملُ.

سيرة مختصرة لأبي القاسم الشابي

ولد أبو القاسم الشابي مؤلف قصيدة إرادة الحياة في منطقة الجريد على مقربة من بلدة توزر التونسية عام 1909، تلقى علومه الأولى على يد والده الذي عمل قاضيًا بالمحاكم الشرعية في كثيرٍ من بلدان تونس، وتعلم الأدب والعلم ومبادئ الرحمة والحنان الحق، وقد التحق الشابي بجامعة الزيتونة عام 1920، حيث نهل من العلوم الشرعية والأدب العربي والفرنسي، كان الشابي شغوفًا بالقراءة والكتابة.

تزوج الشابي عام 1928، ورزق بطفلين، لكن سرعان ما توفي والده عام 1929، مما أصابه بالحزن والاكتئاب،كان الشابي شاعرًا رومانسيًا، تأثر بالشعر الفرنسي والشعر العربي القديم، كتب عن الحب والجمال والوطن والحرية، كان صوته عاطفيًا بحقٍّ، وكلماته قوية وبليغة تصلُ للقلوب دون عناءٍ مثل سهمٍ حنونٍ نافذٍ، وقد توفي الشابي سنة 1934 عن عمر ناهز 25 عامًا، لكنه ترك وراءه إرثًا شعريًا خالدًا.

يُعد الشابي أحد أهم شعراء العربية في القرن العشرين، أعطى للشعر العربي روحًا جديدة وتجديدًا بقصيدته الخالدة إرادة الحياة ، ووضعه على مسار الحداثة، ما زالت أشعاره تُقرأ وتُدرس حتى اليوم، وهي مصدر إلهام للكثيرين من الشعراء والكتاب العرب.

الحالة العاطفية المسيطرة على شعر الشابي

عاش الشابي حياةً قصيرةً لكنها مليئةً بالأمل والألم، فقد كان يملك إرادة الحياة ويأمل في أن يحقق مجدًا كبيرًا في حياته، لكنه عانى مصائب جعلته يشعر باليأس والتشاؤم، لقد فقد والده في سنٍ مبكرة، وعاش في ظل الاحتلال الفرنسي، ومرض بمرض عضال فتك به، وكل هذه المصائب جعلت الشابي يشعر بالمنفى والضياع، لكنه لم يستسلم، بل ظل يكتب الشعر ويعبر عن مشاعره حتى صار من أفضل الشعراء العرب على مر العصور بلا جدال.

جاءت أشعار الشابي تعبيرًا عن ألمه وضياعه، لكنها كانت أيضًا تعبيرًا عن أمله في المستقبل، كان يأمل في أن يتحقق السلام والحرية لوطنه كما جاء في قصيدة إرادة الحياة ، وكان يأمل في أن يجد السعادة في حياته، لم يتحقق كل ما كان يأمله الشابي، لكنه كان شعلة من النور في وسط الظلام، كان صوتًا للأمل في وسط اليأس، كان رمزًا للحرية في وسط الاستبداد، لقد كان نموذجًا يحتذى به للجميع، وسوف يظل ذكره خالدًا في وجداننا.

جاءت قصيدته إرادة الحياة معبرةً عن إيمانه بالحرية والثورة والعدالة الاجتماعية، كان يؤمن بأن الإنسان قادر على أن يصنع مستقبلًا أفضل، رحل الشابي، لكنه ترك وراءه إرثًا شعريًا خالدًا، يُلهم شعراء كثيرين حتى يومنا هذا، فقد جاءت أشعاره إيمانًا بالأمل والحياة، ورفضه للظلم والاستبداد، لقد كان شاعرًا حقيقيًا، وعاش حياته من أجل الحرية والعدالة.

مرض أبي القاسم الشابي

كان الشابي مصاباً بمرض القلب منذ طفولته، إذ كان دائمًا يشتكي من آلامٍ تعذِّبُ قلبه، وقد ازداد سوء حالته أكثرَ بسبب طبيعة عمله فهو شاعرٌ كاتِبٌ مرهفٌ يعتمدُ بالقدر الأكبر على أحاسيسه ومشاعره التي ترهقُ القلبَ من أجل إنشاءِ بيت شعرٍ والتي كانت تُسبِّبُ تعبًا رهيبًا في القلبِ والنفسِ، وأيضًا بسبب الضغوطات النفسية التي كان يعانيها حيث كانت ترفَعُ من قوَّة آلامه، بالإضافة إلى أنَّه لم يلتزِم بنصائح الأطباء، حيث ظلَّ متعلقًا بهواياته مثل الجري والقفز وتسلق الجبال والسباحة وما إلى ذلك من أمورٍ ترهقُ القلب.

وقد تم عرض أبي القاسم الشابي على أطباء كُثر، لكن بلا أي فائدة تذكر، فقد سافر إلى أماكن عديدة مفتشًا عن بيئة مناسبة له ولقلبه، لا يملكُ من صحته إلا إرادة الحياة لكنه للأسف كان يفتِّشُ سُدَى، وفي نهاية الأمر، ماتَ الشابي صغيرًا يافعًا سنة 1934، بالقرب من مدينة تونس، وقيل إنّه مات بسبب مرضهِ الطاعن في قلبه وهذا أقرب إلى الصواب، وقيل إنه مات بسبب مرضٍ آخر يدعى مرض السل ، ولكن ظل سبب وفاة الشابي شيئًا مجهولًا حتَّى الآن.

حول قصيدة إرادة الحياة

أتت قصيدة إرادة الحياة في ظل الاحتلال الفرنسي الطاغي للبلدان العربية وخصوصًا في بلاد المغرب العربي التي تضم المغرب والجزائر وتونس، وشاعرُنا تونسيُّ المنشأ والفكر، ينتمي للمدرسة الرومانتيكية التي تهتمُّ بالطبيعة الخضراء، والمروج الذهبية، والبحر المائِج، والشعور الذي يكمنُ في عميق الإنسانِ، مثل الحُزنِ والشجنِ والرحمةِ، وتهتمُّ أيضًا المدرسة الرومانتيكية بالليلِ والفجرِ والنجومِ والقمرِ والضياءِ والأشعّة وكلِّ هذه الألفاظ البراقة التي تحملُ في طيّاتها شاعرية خاصة.

تتحدَّثُ قصيدة إرادة الحياة عن إرادة كقوّة طاغية، وكيفَ إذا أراد المرءُ شيئَا بقوّة فسوف تذهبُ الأقدارُ إليه طواعية، وتتحدّثُ عن الطّموح الذي يرفَع من شأنِ الإنسانِ حتَّى يصيرَ جبلًا لا حجرًا في هاويةٍ سحيقةٍ، وتتحدَّثُ أيضًا عن الأشجار التي يأتي عليها الخريفُ فيجعلها صفراء خالية من الأوراق مثل الأشياء الميتة تمامًا، وكيف أن بذرةً في الأرضِ تنتظرُ شعاع النُّورِ ومطر الشتاءِ الحالم لأجلِ أن تحيا، وهذه البذور هي التي سوف تحمل جيلًا جديدًا ممتلئًا بالأمل والتفاؤل والحياة.

جاءت قصيدة إرادة الحياة على بحر المتقارِب، وجاء الرويّ على الراء الساكنة مثل (قدرْ، مطرْ، شجَرْ، هجَرْ، انكسرْ)، واتخذت من اللغة الخضراءِ والطبيعة التونسية الجبلية وشاحًا حول صدرِها، وكان إيقاع القصيدة يشبه إيقاع الأناشيد الوطنية تمامًا، فهي حماسية وترنو إلى دبّ الحياة في نفوس كلّ القارئين.

شرح قصيدة إرادة الحياة

في هذه الفقرات القادمة لن تشرح قصيدة إرادة الحياة كاملة بل الأبيات البارزة فيها فقط بأسلوبٍ سهلٍ موجزٍ يعني اللغة وما وراء المعنى في كلّ بيتٍ شعريّ ولن يغفل الشّرح عن الأبيات غير المذكورة بل سيتم إيراد الفكرة المعنية كاملة وذكر السياق والمقام الذي قيل فيه كل بيت، وعمل دراسة أسلوبية لقصيدة إرادة الحياة بشكلٍ مبسطٍ وموجزٍ.

انكسار القيود

إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ     فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي               ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ        تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ
فويلٌ لمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ      من صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ
كذلك قالتْ ليَ الكائناتُ           وحدَّثَني روحُها المُستَتِرْ

يدلّ قول الشاعر “إذا الشعب يوماً أراد الحياة” في مستهل قصيدة إرادة الحياة على القوّة الكامنة في إرادة الشعب الجماعيّة، كما أنّ استخدامه عبارة ” لا بدّ” على نحوٍ متكرّر لوصف كيف ينبغي للقدر أن يستجيب، ولليل أن ينجلي، وللقيود أن تنكسر، يمثّل حركة لا مفرّ منها نحو الحريّة والتغيير عندما يريد الشعب ذلك، أقصد أي شعبٍ وأيّ شيءٍ يمتلكُ إرادة كالإنسان، إنّ اللغة بسيطة لكنّها مشحونة بالأمل والقوّة والإيقاع من أجل نقل هذه الرسالة الثوريّة إلى العالم أجمع.

والأبيات التي تليها تعبر عن قيمة إرادة الحياة والنضال من أجلها، فالشاعر يقول إن من لم يحنّ إلى شوق الحياة ويعشقُ إرادة الحياة ، تبخر في هوائها واندثر، أي أنه امَّحى وصارَ عدمًا، ويصف كلّ من لا يفعل ذلك بأنّه ملعون، لأنه لم يواجه صفعة العدم المنتصر، أي لم يقاتل من أجل الحياة، كما يعبر عن ذلك بقوله “كذلك قالت لي الكائنات”، مما يوحي بأن طبيعة الحياة ذاتها تدعو للنضال وعدم الاستسلام، فالأبيات تجسد رؤية فلسفية عميقة للحياة تقوم على قيمة النضال والكفاح للحصول على الحرية والكرامة.

إرادة الحياة

دمدمة الرّيح

ودَمْدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجاجِ     وفوقَ الجبالِ وتحتَ الشَّجرْ
إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ       رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ
ولم أتجنَّبْ وُعورَ الشِّعابِ     ولا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُستَعِرْ
ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ    يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ

ذلك تعبير عن إرادة الحياة وحالة الطموح القوية والرغبة في تحقيق غاية ما، حيث يقول الشاعر إنه عندما يسعى لتحقيق غاية، “يركب المنى” أي يتعلق بالآمال والتطلعات، ويعبر عن ذلك أيضًا بقوله “ونسيت الحذر” أي إنه تجاهل الأخطار والمشكلات المحتملة لتحقيق طموحه، مما يوحي أن إحساس الطموح القوي الذي يجعله لا ينتبه لشيء سوى الغاية المنشودة، ويستخدم الشاعر تعبير “ركب المنى” بصورة بديعة، حيث يجسد شعور الطموح على أنها رحلة من التطلعات تقوده نحو غايته.

وفي البيت الذي يتحدث عن صعود الجبال فالشاعر بيَّن حب التسلق والصعود نحو القمم العالية، وبيَّن الشعور بالحيوية والحياة الكاملة، فمن لا يحب صعود الجبال – أي من لا يسعى نحو تحقيق المزيد من الطموحات – يعش حياة خالية من المعنى “يعش أبد الدهر بين الحفر” أي حياة رتيبة تأبى التقدم والتطور في ظلامٍ دامس، ويستخدم الشاعر تشبيه “الجبال” لترمز إلى إرادة الحياة والطموحات العالية في الحياة التي تمنح الشعور بالحرية، بينما ترمز “الحفر” لحياة الظلام واليأس.

حديثُ الأرضِ الحنون

وقالتْ ليَ الأَرضُ لما سألتُ      أيا أمُّ هل تكرهينَ البَشَرْ
أُباركُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ      ومَن يَسْتَلِذُّ ركوبَ الخطرْ
وأَلعنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانَ       ويقنعُ بالعيشِ عيشِ الحجرْ

هذه الأبيات تعبر عن نظرة الأرض العميقة لطبيعة البشر، فالأرض – التي تحمل البشر وتربيهم – تقدر أهل الطموح والعمل الذين يحركونها قدماً، رغم ما يخلفونه من آثار مخربة، بينما تلعن الأرض من يعيش حياة الكسل والخمول، ومن يرفض أن يتقدم وفق دفعات الزمن، فهؤلاء يعيشون حياة الحجر الثابت الذي لا يحركه الزمن، وهنا تعبر الأرض عن رؤيتها لطبيعة البشر، حيث تقدر تلك الروح النشيطة التي تطورها رغم مشكلاتها، وتلعن الروح الكسولة التي لا تفيدها ولا تطورها.

وهكذا توحي هذه الأبيات بأن قيمة الإنسان تكمن في روح الطموح والعطاء والتقدم، فدائمًا نقول على قدر أهل العزم تأتي العزائم وليس في الركون والخمول، وهذا ما تقدره الأرض التي تحمل الجميع لكنها تقدر من يمشي عليها معمّرًا طموحًا آملًا متفائلًا إيجابيًّا.

الأفقُ لا يحضنُ ميتَ الطّيور

هو الكونُ حيٌّ يحبُّ الحَيَاةَ        ويحتقرُ الميْتَ مهما كَبُرْ
فلا الأُفقُ يَحْضُنُ ميتَ الطُّيورِ     ولا النَّحْلُ يلثِمُ ميْتَ الزَّهَرْ
ولولا أُمومَةُ قلبي الرَّؤومُ لمَا       ضمَّتِ الميْتَ تِلْكَ الحُفَرْ
فويلٌ لمنْ لم تَشُقْهُ الحَيَاةُ        منْ لعنةِ العَدَمِ المنتصرْ

يصف الشاعر هذا الكون ذاته بأنه حي يحب الحياة ويحتقر الميت، وهذا يعني أن طبيعة الوجود نفسها هي ميل نحو الحياة والنماء والتطور، حتى لو كان الشيء أو الكائن كبير الحجم، فإن عدم حيويته ونشاطه يعني احتقاره من قبل الكون، ويستخدم الشاعر لفظة “الكون” ليشير إلى الوجود بوجهٍ عام، وهو ما يمنح البيت مزيداً من العمق الفلسفي، ويوحي البيت الأوَّل بأن أعظم ما يمكن للإنسان أن يحققه هو العيش حياة نشيطة ومنتجة، حتى لو كان صغير الحجم أمام عظمة الكون.

من ثمَّ يصور الشاعر كيف أن الطبيعة لا تحتضن الموات أو لا تهتم بالأشياء الميتة، فالأفق – الذي يحتضن أحياء الطيور – لا يحتضن ميتها، والنحل – الذي يلثم حيّ الأزهار – لا يلتفت لميتها، هنا يستخدم الشاعر التشبيه والصور الجميلة ليوضح أن الطبيعة مع كل حيويتها لا تهتم إلا بالأشياء الحيّة والنشطة، فالحياة هي مفتاح الوجود، بينما الموت يعني الاختفاء وعدم الاهتمام، وهكذا يعبر البيت عن قيمة الحياة والنشاط على أنهما وحدهما ما يكسبان الإنسان السعادة والفائدة.

وفي البيت الأخير من ذلك المقطع يصفُ نظرة فلسفية عميقة لطبيعة الأرض وعلاقتها بالحياة والموت، حيث تقول الأرض إنها لولا أمومتها التي تحتضن الجميع، لما ضمت الموتى في حفرها، فالأرض- على الرغم من عدم اهتمامها بالموتى كما أظهر الشاعر سابقًا – إلا أن أمومتها تدفعها لاحتضانهم وتربيتهم أيضاً، يستخدم الشاعر صفة “القلب الرؤوم” لوصف قلب الأرض الأمومي الذي يحتضن الجميع، الأحياء والأموات على حد سواء، ويعدُّ هذا البيت من أجمل الصور البلاغية في قصيدة إرادة الحياة .

ليلة مليئة بالنّجوم

وفي ليلةٍ مِنْ ليالي الخريفِ    متقَّلةٍ بالأَسى والضَّجَرْ

سَكرتُ بها مِنْ ضياءِ النُّجومِ    وغنَّيْتُ للحُزْنِ حتَّى سَكِرْ

تجسد هذه الأبيات لحظة سكينة وجمال وحنين في فصل الخريف، حيث يصف الشابي في قصيدته إرادة الحياة كيف أنه في ليلة من ليالي الخريف ملأته بالحزن والضجر ثم سَكِرَ من لمعان النجوم وغنّى لحزنه حتى غشي عليه وصار ثملًا، إذ تعكس الألفاظ هدوءاً وصفواً من خلال التركيبات “ليلة الخريف” و”ضوء النجوم” و”الغناء للحزن”، إلا أن هناك أيضاً حديثاً عن الحزن الخفيف.

أما صورة السكر “من ضوء النجوم” فهي مجاز رائع يمثل كيف أن رؤية سماء الليل قد ملأته بالسلام والغناء، وبوجهٍ عام، تجسد هذه الأبيات مواجهة الحزن وقبوله، والارتباط بجمال الطبيعة وتدفق الشعور من خلال الغناء.

عذارى السحر الخرساء

سألتُ الدُّجى هل تُعيدُ الحَيَاةُ     لما أذبلته ربيعَ العُمُرْ
فلم تَتَكَلَّمْ شِفاهُ الظَّلامِ          ولمْ تترنَّمْ عَذارَى السَّحَرْ

هذه الأبيات تعبر عن تساؤل فلسفي إنساني عميق حول طبيعة الزمن وعلاقته بالحياة، حيث يتساءل الشاعر إذا كان الدجى – أي الظلام – قادرًا على إعادة ما أذبله الزمن إلا ربيعٍ حياتيٍّ مبهجٍ، لكن الظلام – المتجسد بـ”شفاه الظلام” و “عذارى السحر” – لم يتكلم، مما يشير إلى أن الزمن لا رجعة فيه، وأن حلم العودة إلى الشباب لا يمكن تحقيقه، وهنا يعبّر الشاعر عن الحزن الإنساني تجاه الهروب الزمني، ولكن هل تظلّ هذه النبرة التشاؤمية موجودة في بقية الأبيات؟ الإجابة: لا.

حديث الغابة المسحورة

وقال ليَ الغابُ في رقَّةٍ                    محبَّبَةٍ مثلَ خفْقِ الوترْ
يجيءُ الشِّتاءُ شتاءُ الضَّبابِ             شتاءُ الثّلوجِ شتاءُ المطرْ
فينطفئُ السِّحْرُ سحرُ الغُصونِ    وسحرُ الزُّهورِ وسحرُ الثَّمَرْ
وتهوي الغُصونُ وأوراقُها                 وأَزهارُ عهدٍ حبيبٍ نَضِرْ
وتلهو بها الرِّيحُ في كلِّ وادٍ            ويدفنها السَّيلُ أَنَّى عَبَرْ
ويفنى الجميعُ كحلْمٍ بديعٍ             تأَلَّقَ في مهجةٍ واندَثَرْ

في الاستهلال يخبر الغاب – بلهجة رقيقة مثل اهتزاز الوتر – بأن الشتاء سيأتي، هذا الشتاء الضبابي، شتاء الثلوج والأمطار، فالغابة تشير إلى حكمة الطبيعة التي تعي الدورة الحتمية للحياة، بينما يرمز الشتاء لفصل الشيخوخة والهرم، فالشاعر هنا يتلقى إنذار الغابة بمرحلة جديدة ستأتي بالتغيير والتحول، وهكذا تعبر الأبيات عن إحساس الإنسان بقرب مرحلة جديدة في حياته، كما تظهر صورة الغابة المتحدثة كتجسيده لطبيعة الحكمة الإلهية الكامنة في الخليقة.

وبعد أن ينطفئ سحر الربيع، تهوي الأغصان والأزهار والثمار التي شكلت ذكريات الأرض الجميلة، وتلعب بها الرياح في كل وادٍ بعد أن تسقط على الأرضِ، ويدفنها السيل أينما حلَّ بأي أرضٍ خريفية، وهكذا يتلاشى كل شيء كما تتلاشى أحلام الشباب، التي تألقت في لحظة ثم اندثرت، يستخدم الشابي هنا صورًا جميلة ليعبر عن اندثار الشباب وذكرياته بعد عبور الزمن، كيفما حاول الإنسان حفظها، فكل شيء مؤقت وعابر.

طفولة البذور التي تحملُ الأمل

وتبقَى البُذورُ التي حُمِّلَتْ        ذخيرَةَ عُمْرٍ جميلٍ غَبَرْ
وذكرى فصولٍ ورؤيا حَياةٍ          وأَشباحَ دنيا تلاشتْ زُمَرْ
معانِقَةً وهي تحتَ الضَّبابِ       وتحتَ الثُّلوجِ وتحتَ المَدَرْ
لِطَيْفِ الحَيَاة الَّذي لا يُملُّ        وقلبُ الرَّبيعِ الشذيِّ الخضِرْ
وحالِمةً بأغاني الطُّيورِ            وعِطْرِ الزُّهورِ وطَعْمِ الثَّمَرْ

تشير البذور – التي تحمل ذخيرة حياة جميلة – إلى أن حياة الشباب وذكرياتها لن تندثر أبدًا، فالبذور ما زالت تحتضن أشباح ذلك العالم الذي اندثر، لكنها تحتضنه في أثناء مرورها تحت الضباب والثلوج، فهي تلتصق بروح الحياة التي لا تنتهي، وقلب الربيع الأخضر، وهكذا تحلم البذور – بعد اندثار شبابها – بأغاني الطيور وعطر الزهور وطعم الثمر، مما يدل على أن روح الحياة تدوم حتى بعد اندثار الأشكال الخارجية، أجل إن ذكريات الشباب ربما تندثر، لكن روح الحياة تدوم كما ستخرج البذور شجرا أخضر.

دورة الحياة

ويمشي الزَّمانُ فتنمو صروفٌ      وتذوي صروفٌ وتحيا أُخَرْ
وتَصبِحُ أَحلامَها يقْظةً             موَشَّحةً بغموضِ السَّحَرْ

يسير الزمان وتنمو الفصول وتذبل بعضها وتعيش أخرى، وتصبح أحلام البذور المدفونة في الأرض يقظة، لكن مشبعة بغموض السحر، وهنا ترمز البذور إلى الطاقة الإبداعية الجديدة القادرة على إعادة الحياة والنماء، فعندما تتحول أحلام البذور إلى يقظة، أي إلى حقيقة ملموسة، فإنها تحتفظ ببعض الغموض، كونها تابعة لقوانين الطبيعة، وبهذا المعنى تشير الأبيات إلى أن الزمن يسير قدما محققا مراحل النمو والبلوغ والضمور، لكن كل لحظة حاضرة تحمل احتمال تحويل الأحلام إلى حقيقة.

نبض البذور في قلب الأرض

تُسائِلُ أَيْنَ ضَبابُ الصَّباحِ     وسِحْرُ المساءِ وضوءُ القَمَرْ
وأَسرابُ ذاكَ الفَراشِ الأَنيقِ    ونَحْلٌ يُغنِّي وغيمٌ يَمُرْ
وأَينَ الأَشعَّةُ والكائناتُ         وأَينَ الحَيَاةُ التي أَنْتَظِرْ

تتساءل البذور في الأرض عما إذا كان ضباب الصباح وسحر المساء وضوء القمر لا يزال قائمًا، فالبذور هنا ترمز إلى الحياة الجديدة، في حين أن عناصر الطبيعة ترمز إلى مرور الزمن، وبالتالي فإن استفهام البذور يدل على حسرتها على فوات الزمن واندثار لحظاته الجميلة، والأبيات توحي بأن الحياة الجديدة – على الرغم من وجود بصيص أمل – إلَّا أنَّ البذور تحمل حزنًا على فقدان ماضيها الأخضر، لكنّها الآن تحلمُ به، وتريده بشدة تريد الصباح، تريد ضوء القمر، إنّها تريد الخروج إلى نور العالم المضيء.

إنّها تتساءل أيضًا عن أسراب العصافير الأنيقة، والنحل الذي كان يغني، والسحب التي كانت تمر، وتستفسر أيضًا عن الأشعة والكائنات والحياة التي كانت تنتظرها في ذلك الوقت، هذه التساؤلات الكثيرة من قبل البذور تدل على رغبتها العميقة في الحياة، في الوجود، في التنفس فهل سيكون لها ذلك؟.

خفقة الجناح الملائكي

وما هو إلاَّ كَخَفْقِ الجناحِ      حتَّى نما شوقُها وانتصَرْ
فصدَّعَتِ الأَرضُ من فوقها    وأَبْصرتِ الكونَ عذبَ الصُّوَرْ
وجاءَ الرَّبيعُ بأَنغامهِ            وأَحلامِهِ وصِباهُ العَطِرْ
وقال لها قدْ مُنِحْتِ الحَيَاةَ    وخُلِّدْتِ في نَسْلِكِ المدَّخَرْ

حيث بدأ شوق البذور في النمو ببطء شديدٍ، وما هي إلا لحظة كاهتزاز جناحٍ أو رفرفة رمشٍ، وانتصر ذلك الشوق، فانشقت الأرض فوقها، وشاهدت الكون في جماله، ثم جاء الربيع بأغانيه وأحلامه وعطر شبابه البهيج وقال الربيع للبذور إنه منحها الحياة وخلد نسلها الذاخر، مشيرا إلى أن دورة الحياة ستستمر إلى الأبد حيث ترمز انشقاق الأرض إلى إعطاء المجال للحياة لتزدهر، ويرمز الربيع بأغانيه وأحلامه إلى إنعاش الروح.

أخيرًا تعود البذور للحياة

وَرَنَّ نشيدُ الحَيَاةِ المقدَّس     في هيكلٍ حالِمٍ قدْ سُحِرْ

وأُعْلِنَ في الكونِ أنَّ الطّموحَ      لهيبُ الحَيَاةِ ورُوحُ الظَّفَرْ

إِذا طَمَحَتْ للحَياةِ النُّفوسُ        فلا بُدَّ أنْ يستجيبَ القَدَرْ

حيث بدأت البذور تطمح لتكون شجرة، وأعطاها الربيع هذه الفرصة، وعندما طمحت للحياة، رن نشيد الحياة المقدس في صورة ملكٍ حالم، مما يدل على قدسية الحياة والنمو، وقد أعلن في الكون بصوتٍ مهيبٍ أن الطموح هو لهيب الحياة وروح الانتصار، لأنه إذا طمحت النفوس للحياة، فلا بد أن يستجيب لها القدر، وهنا ترمز البذور إلى الأجيال القادمة، وترمز رغبتها في أن تكون شجرة إلى إرادتها للنمو والتحول والثورة والرغبة في حياة كريمة، ويرمز نشيد الحياة إلى الفرح الذي يصاحب الوصول للهدف.

وإلى هنا انتهى شرح قصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي معلنًا في نهاية القصيدة أن الحياة دورة فصولية تبدأ بالربيع وتنتهي بالخريف، وتتعاقب الأحزان والأفراح على مسارات الحياة ولكن في نهاية الأمر لا بد أن ينتصر الحق والخير والجمال على القيم الباطلة، لقد امتلأت قصيدة ارادة الحياة ابو القاسم الشابي بلفتات بلاغية جميلة مثل المحسّنات البديعية في قصيدة إرادة الحياة ، وأعطتنا الأمل في حياةٍ جميلة بها الترح والفرح معًا لكن في النهاية سينتصرُ الخير.

إلى ماذا ينتمي شاعر القصيدة؟

ينتمي أبو القاسم الشابي هذا الشاعر الذي كتب قصيدة إرادة الحياة إلى مدرسة أبولو المصرية التي من أعلامها إبراهيم ناجي وعلى محمود طه.

أين عاش أبو القاسم الشابي؟

عاش في تونس وقضى حياته بأكملها هناك، وقد أثرت مروج تونس الخضراء على حياته فصار شاعرًا مجيدًا.

ما سياق كتابة قصيدة إرادة الحياة؟

الحديث عن قوة الشعب العربي في مواجهة الاحتلال الغاشم وأنه لا بد أن يريد أولًا ويمتلك إرادة التغيير حتى يستطيع أن يغير كل شيء من حوله إلى الأفضل.

هل هناك أخطاء عقيدية بالبيت الأول؟

القول الراجح إن هذا البيت لا عيب فيه وهو فقط يريد تغيير أنفس الناس فإذا غيروا أنفسهم سيستجيب القدر لهذا التغيير وهذا موافق للعقيدة.

مواضيع ذات صلة

مقدمة-وخاتمة-لاى-موضوع-تعبير-انجليزيأبسط مقدمة وخاتمة لاى موضوع تعبير انجليزي

معلقة زهير بن أبي سلمى : الهروب من الحرب