الحلاج | زاهد متصوف أم زنديق ملحد؟

((واللهِ ما طلعت شمسٌ ولا غربت ** إلا وحبك مقرونٌ بأنفاسي ** ولا خلوت إلى قومٍ أحدثهم ** إلا وأنت حديثي بين جُلاسي))، كلنا يعرف هذه الأبيات ويترنم بها ويعرف مؤلفها الحلاج أو يسمع به على الأقل، يسمع من هؤلاء أنه زنديق ومن هؤلاء أنه شهيد ومن أولاء أنه ملحد ومن أولئك أنه زاهدٌ متصوف، البعض يحلق به في سماء البطولة ويتغنى بأمجاده ويراه مظلوماً والبعض الآخر يهبط به إلى هاوية الكفر والسحر ويراه بالقتل محقوقاً.

على أية حال لقد أفضى إلى ما قدم ولن ينفعنا مدحه أو ذمه، وقد اختصر الأمر في قوله ((ديني لنفسي ودين الناسِ للناسِ))، وإن كان الفضول يدفعك عزيزنا القارئ لمعرفة التفاصيل فبين طيات هذه السطور سننقل لك كل ما قيل.

سيرة الحلاج الذاتية :

الحلاج هو الحسين بن منصور الحلاج ويكنى بأبي المغيث، ولد في التاسع من شهر نوفمبر عام 858 ميلادياً في مدينة واسط العراقية جنوب العاصمة بغداد، وذهب آخرون إلى أن ولادته كانت في بيضاء فارس فيما نفت فارسيته جل الدراسات الأكاديمية والأبحاث التاريخية، ترعرع في واسط ونشأ على اللغة العربية وتعلم الإسلام وفقاً لمذهب الإمام احمد بن حنبل حيث كانت واسط وقتذاك معقلاً للفكر السني، انتقل بعدها إلى البصرة وطاف بالعديد من البلدان الأخرى، كما تردد على مكة المكرمة واعتكف بالمسجد الحرام فترة طويلة.

كان والده حرفياً يعمل في حلج القطن فأطلق عليه اسم الحلاج، أما والدته فكانت ذات أصول عربية إذ تنتمي إلى حي الحارثية – حسبما تشير بعض المصادر – وهو أحد أحياء العاصمة العراقية، وقد تزوج الحلاج من ابنة أبي يعقوب البصري وأنجب منها أربعة ذكور وأنثى واحدة.

الحلاج والصوفية :

يعد الحلاج من أشهر شعراء العصر العباسي وقد عرف بأشعاره الصوفية المثيرة للجدل، فلم يكن التصوف بالنسبة له مذهباً بل كان جهاداً في سبيل إظهار الحق ودحض الباطل والوقوف في وجه الظلم والطغيان لذا جعل المستشرقون من الحلاج وابن عربي بطلين ثوريين شبيهين بالأساطير الغربية.

وقد تورط الحلاج في الصراعات الدينية والسياسية بسبب كثرة تنقله في البلاد وتجواله في الأسواق وحديثه مع الناس وانتقاده الأوضاع السائدة آنذاك وامتلاكه النزعة الإصلاحية، وقد التف حوله الكثيرون لدرجة افتتانهم به إذ كان يجيد التلون مع كل طائفة سواء كانوا سنة أو شيعة أو فساقاً، الأمر الذي أوغر عليه الصدور وجعل الأقاويل تثار حوله هنا وهناك إلى أن بلغ أمره الخليفة العباسي المقتدر بالله.

وعلى الرغم من كثرة المتصوفين إلى أنهم كانوا يميلون إلى العزلة والصمت وكتم المشاعر والأسرار وترك الخلق للخالق على عكس الحلاج الذي مضى يعبر عن أفكاره ويبوح بأسرار وجدانه ويجهر بمعتقداته في الأسواق أمام العامة، وكان هذا سبب الخلاف الذي نشب بينه وبين متصوفي عصره.

كيف قتل الحلاج ؟

عندما كثرت الأقاويل عن الحجاج وبلغ أمره الخليفة أصدر قراراً بالقبض عليه، فلما أقر الحسين بآرائه وأصر على فلسفته سجن ولاقى صنوفاً من الضرب والجلد والصلب والتعذيب حتى قطعت أطرافه الأربعة، لكنه مع ذلك لم يرتدع بل ازداد تمرداً وردد مبتسماً ((اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي ** ثم مروا برفاتي فوق في القبور الدارساتِ ** تجدوا سر حبيبي في طوايا الباقياتِ)).

وأخيراً ضرب عنق الحسين بن منصور – بعد إجماع علماء عصره على قتله لما ثبت عنه من الكفر والزندقة ومخالفته للسنة والشرع – في العاصمة العراقية بغداد صباح يوم الثلاثاء الموافق السادس والعشرين من مارس عام 922 م وعمره آنذاك يناهز الخامسة والستين، وبعدما فاضت روحه إلى بارئها أحرقت جثته وألقي رفاتها في مياه نهر دجلة، ويذكر أن رأسه نصب على جسر بغداد حتى لا ينسى الناس كيف قتل الحلاج فيما ذكر آخرون أن تلاميذه احتفظوا برأسه.

شعر الحلاج

ما هي خصائص شعر الحلاج ؟

اتصف شعر الحلاج بجملة من الخصائص أبرزها المغالاة في الحب الإلهي الذي طغى على معظم قصائده وبات السمة المهيمنة على أشعاره، بالإضافة إلى التقشف والزهد والابتعاد عن الماديات والإكثار من ذكر روحانيات النور الإيماني، كما اتصف شعره بجزالة اللغة وعذوبة المعاني ودقة الحروف والكلمات والاقتراب من أذواق العامة من خلال استخدام الألفاظ المتداولة والعبارات اللافتة وتجنب المصطلحات المعقدة التي كان يتسم بها الشعر الجاهلي القديم.

وقد تم جمع الديوان الشعري الخاص بالحلاج على يد الدكتور كامل مصطفى الشيبي الذي عمد إلى جمع أشعاره والأشعار المنسوبة إليه مغ إضافة العناوين الإيضاحية المستمدة من جوهر الأبيات للدلالة على المعاني، ومن أبرز القصائد التي ضمها الديوان وتجلت فيها خصائص شعر الحلاج قصيدة إلى كم أنت في بحر الخطايا وقصيدة قلوب العاشقين لها عيون وأيضاً قصيدة عجبت منك ومني.

ما هو شرح قصيدة والله ما طلعت شمس ولا غربت ؟

ذُكر في شرح قصيدة والله ما طلعت شمس ولا غربت أن الحلاج قد استهل أبياته بأسلوب القسم تأكيداً على أن حب الله عز وجل مستقر في قلبه وأن هذه المحبة غير مقرونة بزمن فسواء أشرقت الشمس أو غربت ستبقى محبته له كما هي، وقد عمد الشاعر إلى استخدام أسلوبي الحصر والنفي إذ حصر محبته في محبة الله تعالى ونفى محبة كل ما سواه كما أنه حصر كل أسباب سعادته وذهاب حزنه في رؤية المولى سبحانه وتعالى تعميقاً لدلالات الحب.

استخدم الحلاج أيضاً أسلوب الشرط مستعملاً حرف الشرط ((لو)) غير الجازم دلالةً على الامتناع حيث إنه يرغب في الذهاب إلى الله عز وجل ولو مشياً على الرأس أو سيراً على الوجه لكن هذا الأمر ممتنع فالشاعر لن يقوى على المشي بهذه الطريقة لكنها محاولة لوصف مدى حب، ونلاحظ عند قراءة هذه الأبيات التدرج في وصف المحبة والانتقال من حب الجوارح إلى الحب الروحي أي أن حب الشاعر لخالقه تصاعدياً يزداد توهجاً بتقادم الزمن.

وفي نهاية الأبيات يوضح الشاعر معاناته مع الناس كونه يعتنق المذهب الصوفي الذي ينكره عليه الكثير ويرمونه بالسفاهة بسببه، لكنه لا يرد عليهم ويكتفي بقوله ((ديني لنفسي ودين الناس للناس))، وهو لا يقصد هنا أنه يعتنق ديناً غير الدين الذي يدين به الناس – وإن خانه التعبير – إنما يقصد أن طريقته في اتباع الدين هي الحب والعشق أما طريقة الناس فهي الخوف والطمع.

ماذا قال الذهبي عن الحلاج في سير أعلام النبلاء ؟

من أهم الكتب التي ذكرت الحلاج سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي الذي حسم الجدل المثار بشأن الحسين بن منصور فقال ((فتدبر يا عبد الله نحلة الحلاج الذي هو من رءوس القرامطة ودعاة الزندقة وأنصِف وتورع، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام محب للرئاسة حريص على الظهور بباطل وبحق فتبرأ من نحلته، وإن تبرهن لك – والعياذ بالله – أنه كان محقاً هادياً مهدياً فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق، وإن شككت ولم تعرف حقيقته وتبرأت مما رمى به أرحت نفسك ولم يسألك الله عنه أصلاً)).