عمر بن عبد العزيز | ثاني العمريين وخامس الخلفاء الراشدين

محظوظة هذه الأمة، تمنى لها نبيها ((عمر)) فحظيت بعمرين، أحدهما الفاروق سليل بني عدي والآخر عمر بن عبد العزيز سليل بني أمية، يلتقيان في النسب ويتشابهان في اللقب وكلاهما حياته للدين وهب، كان العدل ديدنهما وتقوى الله مذهبهما والورع سجيتهما والزهد شميلتهما والضيم لم يجد له مرتعاً في دولتهما، نغبط مَن عاصر خلافتهما ونبكي ما آل إليه حالنا بعدهما، رضي الله عنهما وطرح البركة في أرحامنا علها تنجب ((عمر)) جديداً يسير على نهجهما.

وقد دأبنا في منصتنا تلك على سبر أغوار سيَر الصالحين حتى يتسنى لأبناء الأمة اقتفاء أثرهم والاقتداء بهم وتربية النشء على منهجهم، فما أحوجنا هذه الأيام للأسوة الحسنة في ظل تفشي النماذج السيئة، وإن كانت سطورنا شرفت بذكر ابن الخطاب مراراً فها نحن نزيدها شرفاً بذكر سميِّه حتى نعرف من هو عمر بن عبد العزيز وما هي أهم الجوانب المتعلقة بسيرته.

من هو عمر بن عبد العزيز ؟

1) نسب عمر بن عبد العزيـز :

ينحدر عمر بن عبد العزيز من نسبٍ شريفٍ عريق، فوالده هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب القرشي، أي إن نسبه يلتقي بنسب الرسول عليه الصلاة والسلام في عبد مناف وهو الجد الثالث للنبي، وكان والده من خيرة أمراء بني أمية ومن الفوارس الذين تربعوا على العرش في مصر الكنانة لمدة تتجاوز العشرين عاماً، أما والدته فهي ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، أي إن أمه سليلة الفاروق رضي الله عنه وحفيدته، ((ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)) آل عمران ((34)).

وهناك قصة شهيرة لوالدة ليلى، جدة عمر لأمه وزوجة عاصم بن عمر بن الخطاب وهي أم عمارة بنت سفيان، فبينما كان الفاروق يعس بالمدينة ذات يوم إذ تناهى إلى مسمعه صوت امرأة تأمر ابنتها بمزج اللبن بالماء، لكن ابنتها أبت وأخبرتها أن عمر نهى عن فعل ذلك، فردت والدتها قائلة ((يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك بموضع لا يراكِ عمر ولا منادي عمر))، فما كان من الجارية إلا أن قالت ((يا أمتاه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء)).

عرف أمير المؤمنين أخبار الصبية وزوَّجها لابنه عاصم، فأنجبت منه ليلى، ثم أنجبت ليلى عمر بن عبد العزيز.

2) متى ولد عمر بن عبد العزيـز ؟

وضعت ليلى بنت عاصم ابنها عمر في العام الهجري الحادي والستين بين جنبات المدينة المنورة في خلافة يزيد بن معاوية وفق ما ذكره بعض المؤرخين كالذهبي، وهذه هي الإجابة عن السؤال المتداول متى ولد عمر بن عبد العزيز وأين كانت ولادته؟

ولعمر تسعة من الإخوة هم أبو بكر ومحمد وعاصم – وهم أبناء ليلى – وسهل وسهيل وأم الحكم وأم البنين وزيان والأصبغ.

3) نشأة عمر بن عبد العزيـز :

ترعرع عمر بن عبد العزيز تحت سماء المدينة المنورة، وكان منذ صغره ملازماً لـ عبدالله بن عمر بن الخطاب ومتأثراً به، فلما شب ولي والده الإمارة في مصر ولم يلبث أن كتب إلى زوجته ليلى يطلب منها مغادرة المدينة والقدوم بولدها إليه فانصاعت لأمره، وذهبت إلى عمها عبد الله بن عمر تحيطه بالأمر فما كان منه إلا أن قال ((يا ابنة أخي هو زوجك فالحقي به))، وعندما همت بالمغادرة استدرك قائلاً ((خلفي هذا الغلام عندنا – يقصد عمر – فإنه أشبهكم بنا أهل البيت)).

لم تعارض أم عاصم أمر عمها وخلفت ابنها بين أحضان أخواله في المدينة المنورة فيما مضت هي إلى مصر لتلحق بزوجها، ولما قدمت عليه تفقد ولده فلم يجد عمر فسألها عنه، فأخبرته أن ابن عمر سألها تخليفه عندهم في المدينة لشبهه بهم، الأمر الذي سُر له عبد العزيز.

من هو عمر بن عبد العزيز

4) طلبه للعلم :

ذكرنا أن عمر شب في كنف أسرة جده لأمه – عمر بن الخطاب – بالمدينة المنورة، لذا تأثر بهم وبعدد من صغار الصحابة الذين عاصرهم مثل أنس بن مالك وعبد الله بن جعفر بن عبد المطلب والسائب بن يزيد وغيرهم، ويذكر في قصة انس بن مالك رضي الله عنه أنه صلى يوماً خلف عمر بن عبد العزيز فقال ((ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله ﷺ من هذا الفتى)).

انصرف عمر إلى طلب العلم مبكراً فحفظ القرآن الكريم صغيراً ولازم المجالس الزاخرة بأهل العلم والفقه والأدب والصلاح، وكان حريصاً على قضاء جل وقته في المطالعة والمذاكرة والكتابة، منصرفاً عن الفتن والترهات التي كانت تشغل أقرانه، رغم حياة الترف والنعيم التي رفل فيها إذ كان والده أميراً وعمه خليفةً، وكان لهذا بالغ الأثر في تكوين شخصيته واتقاد ذكائه وتحليه بالحكمة والبصيرة.

5) صفات عمر بن عبد العزيـز :

من صفات عمر بن عبد العزيز الخُلقية التقوى والزهد والثبات والقناعة والخوف من الله، بالإضافة إلى العدل والصبر والحلم والتواضع ورجاحة العقل ورقة القلب، وكان صواماً قواماً قانتاً لله منيباً له لا يخشى فيه لومة لائم، أما صفاته الجسمية فقد تمثلت في نحافة الجسد واسمرار البشرة – وقيل بياضها – ورقة الوجه وحسن اللحية، بجانب أنه كان غائر العينين وفي جبهته أثر لحافر الدابة لذا أطلق عليه اسم ((أشج بني أمية)).

6) ولايته على المدينة المنورة والحجاز :

تمتع عمر بن عبد العزيـز بمكانة مرموقة في البيت الأموي، فقد كان يحظى بحبهم واحترامهم وتقديرهم خاصةً عمه عبد الملك الذي زوجه من ابنته فاطمة، لكنه لم يعهد إليه بأي مسئوليات نظراً لصغر سنه وانشغاله بطلب العلم وقتذاك، وفي عهد الوليد بن عبد الملك تولى عمر إمارة المدينة المنورة ثم اتسعت ولايته لتشمل الطائف وكل منطقة الحجاز، وبعدها ترك الإمارة وغادر إلى دمشق.

وكان عمر ناقماً على حكم بني أمية لقيام دولتهم على الظلم ظناً منهم أن البطش والجبروت يساهم في تثبيت أركان الملك، وفي هذا السياق قال ((الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، ومحمد بن يوسف في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك في مصر، امتلأت والله الأرض جوراً))، ماذا لو رأيت حكام اليوم يا ابن عبد العزيـز؟

6) خلافة المسلمين :

اتخذ الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك من ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيراً ومستشاراً يعود إليه في كل صغيرة وكبيرة، وكان يقول له ((ما اغتممت بأمرٍ ولا أكربني أمرٌ إلا خطرت فيه على بالي))، كما كان يقول ((ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحداً يفقه عني))، وقد دفع عمر سليمانَ لاتخاذ قراراتٍ عديدة كعزل ولاة الحجاج وولاة آخرين والأمر بإقامة الصلاة في أوقاتها وأمور أخرى كان يصغي لعمر فيها، فظل عمر بجواره يسدي له النصح ويشاركه المسئولية.

ولما باغت المرض سليمان نصحه المقربون بجعل عمر بن عبد العزيز خليفةً للمسلمين ففعل ذلك، وعندما توفي صار عمر الخليفة وفقاً للوصية التي تركها سليمان، فلما علم عمر قال ((أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم))، لكن الناس صاحت وقالت ((قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فولِّ أمرنا باليمن والبركة)).

قصة عمر بن عبد العزيز

أشج بني أمية خليفة للمسلمين :

أذعن أشج بني أمية لجماعة المسلمين، فصدح بخطبةٍ توضح سياسته وتطمئن رعيته وتدب الرعب في قلب كل مَن تسول له نفسه ممارسة الظلم في أمصار دولته، ومن هذه اللحظة قرر عمر خلع ثياب الترف التي عاش يرفل فيها وارتضى لنفسه ثوب الكفاف إذ لم يعد مسئولاً عن نفسه بل صارت الأمة كلها ضمن مسئوليته، واليوم نرى حكام المسلمين يتصارعون على الكراسي طمعاً في الدعة والترف والجاه، وعندما يضيق الحال بالرعية يأمرونهم بالتقشف بينما هم يتنعمون تحت أسقف قصورهم الرئاسية.

وكان من اعمال الخليفه عمر بن عبد العزيز الإصلاحات التنموية التي استهدفت نشر الأمن ووأد الفتن وزيادة دخول الفقراء والمحتاجين، بالإضافة إلى الإصلاحات الثقافية التي تمثلت في تدوين الحديث النبوي ونشر العلم وتعريف الرعية بالمفهوم الصحيح للسنة الشريفة، بجانب الدعوة إلى الإسلام وتحقيق الوئام الاجتماعي والانتقال بالمجتمع الإسلامي من العوز إلى الرخاء.

قصة عمر بن عبد العزيـز مع ابنه :

يذكر في قصة عمر بن عبد العزيز أنه أراد النوم يوماً من شدة التعب فجاءه ابنه يطلب مشورته فصده عمـر قائلاً ((أي بني أريد أن أغفو قليلاً فلم تبقَ في جسدي طاقة))، فرد ابنه مستنكراً ((أتنام قبل أن ترد المظالم؟))، فما كان من عمر إلا أن قام من فوره وأعان ابنه على ما أراد فعله ثم قال ((الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني)).

وهكذا أمضى عمر فترة خلافته في رد المظالم والتفكير في الجوعى وحمل هم المرضى، مكتفياً هو بالحياة الخشنة، لقد أعاد عدل عمر بن عبد العزيز لذاكرة الأمة فترة خلافة جده وسميِّه، فرضي الله عن العمرَين.

7) وفاة عمر بن عبد العزيـز :

ورد في سيرة عمر بن عبد العزيز أن المنية وافته في شهر رجب من العام الهجري الواحد بعد المائة وعمره وقتذاك يناهز الأربعين، واختلفت الروايات في سبب الوفاة حيث ذكر البعض أنه مات من شدة الخوف من الله عز وجل ومن زيادة الاهتمام بأمر الناس، فيما أكد آخرون أنه مات مسموماً إذ عمد بنو أمية إلى دس السم في شرابه بعدما ضاقوا ذرعاً من سياسته التي حرمتهم الملذات ومنعتهم التمتع بالميزات، وثمة مَن ذهب إلى أن مرض السل هو سبب وفاة عمر بن عبد العزيز بعد أن قضى عامين في الخلافة ملأ فيهما الأرض عدلاً ورخاءً.