هارون الرشيد | خير خلف لأحسن سلف

إن صفحات التاريخ ممتلئة للغاية بأسماء الأفراد الذين كان لهم عاقبة طيبة في حياة الأمم والشعوب، فقد أورثت الأجيال القادمة دروسا وعبرا في الشجاعة والرزانة والفطنة وعدم التخاذل، ويعد هارون الرشيد أحد خلفاء الدولة العباسية خير مثال على ذلك.

من هو هارون الرشيد ؟

هو أحد خلفاء الدولة العباسية ومن أفضل قادتها على مر التاريخ، كان مثابرا وتعلم من أبيه أصول القيادة والقتال، وكما اتسم بالحس الأدبي، وتعلم الكثير من مجالسة الشعراء العرب المميزين.

اسمه هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن العباس القرشي الهاشمي، وكانت كنيته أبو موسى، ولكن بعد ذلك كُنى بأبي جعفر.

لُقب بالرشيد، لأنه كان حكيما لبيبا بارعا في القيادة بارعا في القتال، شارك في العديد من الفتوحات التي حقق النصر فيها، وقد قيل إن والده هو من منحه هذا اللقب في إحدى المعارك مع الروم.

ولد هارون الرشيـد في شهر فبراير لسنة 766 ميلاديا الموافق لعام 148 هجريا، في مدينة الري الواقعة في دولة إيران، حيث كان أبوه المهدي أميرا عليها، وامه هي الخيزران ولكن هذا لم يكن اسمها بل كنية لها وتسمى (أم الهادي)، و الخيزران ام هارون الرشيد كانت تقية ورعة.

يمكنك عزيزي القارئ بواسطة كتاب هارون الرشيد حقائق عن عهده وخلافته pdf الاطلاع أكثر عن تفاصيل حياته وفترة خلافته.

سيرة هارون الرشيد مختصرة

كانت حياة هارون الرشيـد في جميع مراحلها ممتلئة بالأحداث المثيرة، ومن أبرز تلك الأحداث ما يلي:

اولا: فترة الطفولة

لقد عاش هارون الرشيـد فترة طفولة مختلفة عما عاشوه باقي الأطفال في تلك الفترة، حيث كان السبب وراء ذلك هو نشأته في أسرة حاكمة مقيدة ببعض الأمور والتقاليد، فأبوه كان حاكما للدولة العباسية.

كان والد هارون الرشيـد يُعِده ليكون هو الحاكم المستقبلي للدولة العباسية، فبدأ بتعاليمه فنون القتال وأساليب القيادة منذ نعومة أظفاره.

اتسم هارون الرشيـد بالذكاء والفطنة، وكان مقداما شجاعا منذ صغره، مُحبا للعلم بدرجة كبيرة، ففترة طفولته كانت مفعمة بالأنشطة العسكرية والتدريبات القتالية، فنشأ على حب الجهاد.

ثانيا: فترة التعليم والدراسة

لقد تربى هارون الرشيـد في بيئة مترفة، فأحضر له والده مجموعة كبيرة من خيرة العلماء الذين كانوا موجودين في ذلك العصر ليعلموه ويهذبوه، أمثال الكسائي والمفضل الضبي والإمام مالك بن أنس ويحيى البرمكي.

فكبر الرشيـد وتفتحت آفاقه بشكل كبير وأحب العلم و اصول الفقه ،ويعود الفضل في ذلك إلى تلك النشأة التي أثرت عقل الرشيد وذوقه، فأصبح لديه مخزون علمي وثقافي كبير.

فكان قصر هارون الرشيـد مكتظا بالفقهاء والعلماء وأيضا الشعراء، وذلك بسبب شدة حبه للإسلام والعلم وتعلقه بالأدب والشعر، فكثرت قصص هارون الرشيد مع العلماء.

ثالثا: الحياة الشخصية

كانت أول زوجات هارون الرشيد هي بنت عمه زبيدة ابنة جعفر المنصور، وزبيدة ليس اسمها ولكن لقبها، واسمها الحقيقي هو أمة العزيز، ولم تكن هذه الزيجة الأخيرة لهارون الرشيد، بل تعددت زيجاته وكانت من بينهن ابنة عمه الآخر العباسة بنت سليمان بن أبي جعفر المنصور.

ولكثرة زيجات هارون الرشيـد فقد أنجب العديد من الأبناء فمنهم البنين والبنات، وكان من أشهرهم الأمين والمأمون.

سمات الرشيد وأخلاقه

من أهم السمات التي تمتع بها الخليفة هارون الرشيـد ما يلي:

1- كان على قدر كبير من العدالة، فدائما ما كان يعطي الحق لأصحابه.

2- كان متواضعا ورعا شهما غيورا على دينه مدافعا عنه.

3- كان محبا للعلم ويحترم العلماء والفقهاء، ويجالس الشعراء.

4- كان كثيرا ما يتصدق على الفقراء والمحتاجين ويخرج الزكاة في أوقاتها.

هارون الرشيد

هارون الرشيد قبل الحكم

كان هارون الرشيـد محل ثقة كبيرة عند أبيه، حيث كان يضعه قائدا على الكثير من الحملات والحروب رغم صغر سنه، نظرا لما يتمتع به من قوة وشجاعة وفطنة، ولم يخيب ظن أبيه فقد كان يعود له بالفوز والانتصار، ذلك الأمر الذي جعل والده يختاره حتى يكون من بين ولاة العهد بعد أخيه الهادي.

وأخذ الخليفة العباسي بتجهيزه لذلك، فقد وضعه أميرا على ولاية الصائفة في سنة 163 ميلاديا، وتمكن الرشيد من تخطي حدود الإمبراطورية البيزنطية واستولى على عدد من حصونها، وبعد ذلك تم تعيين الرشيد واليا على المغرب في عام 164 ميلاديا، لكنه رفض مغادرة بغداد وبعث من ينوب عنه هناك، وفي سنة 165 ميلاديا تم تعيين هارون الرشيـد قائدا للجيش، فاستطاع غزو البيزنطيين وفتح حصونهم والاستيلاء على أراضيهم.

بعد أن توفي والد هارون الرشيـد في سنة 876 ميلاديا، أصبح الرشيد وليا للعهد بموجب وصية أبيه، إلا أن أخيه الهادي أراد أن يأخذ منه هذا المنصب ويمنحه لابنه جعفر، ذلك الأمر الذي تسبب في نشوب خلافات ومنازعات بينهما انتهت بمرض الهادي ووفاته.

المبايعة والخلافة

تسلم هارون الرشيـد الخلافة في ذات اليوم الذي فارق فيه أخوه الهادي الحياة، وكان ذلك في الرابع عشر من شهر سبتمبر لسنة 786 ميلاديا الموافق 170 هجريا، وكان عمره في ذلك الوقت 22 عام، وبواسطة هذه المبايعة بلغت الخلافة الإسلامية أوجها، وبدأ معها عصر الازدهار والحضارة في تاريخ الدولة العباسية، حيث تطور الفن والأدب ومختلف العلوم الأخرى.

ساد الأمن والأمان جميع أنحاء البلاد، وبرزت قوة الدولة العباسية، فبات يخشاها أي عدو، وعَيّنَ الرشيد يحيى البرمكي وزيرا له، وظل هارون الرشيـد في خلافته لفترة طويل من الزمان وصلت إلى ثلاثة وعشرين عاما وشهرين وثمانية عشر يوما، إلا أن فارق الحياة عن عمر يناهز 45 عام، وقد قيل إن تلك الفترة هي الأفضل في تاريخ الدولة العباسية كله.

إنجازات الرشيد

في عهد الخليفة هارون الرشيـد شهدت الدولة العباسية العديد من الإنجازات المهمة التي أعلت من شأنها، ومن أهم إنجازات الرشيد ما يلي:

– تمكن الخليفة هارون الرشيد من تشييد إمبراطورية كبيرة وعظيمة، امتدت عى رقعة واسعة للغاية.

– أمر بتأسيس بيت الحكمة في مدينة بغداد، الذي وُضع فيه مجموعة كبيرة جدا من الكتب والمؤلفات من شتى بقاع العالم، وكان يشتمل على أكثر من غرفة تتخللها أزقة طويلة، تم إفراد بعضها للكتب، والبعض الآخر لعقد المحاضرات، بالإضافة إلى أماكن مخصصة للمترجمين والناسخين، وتطور أيضا الشعر في عهده فكثر شعراء العصر العباسي الذين أثروا الأدب العرب بقصائدهم.

– أثناء مدة حكم هارون الرشيد فروع العلم المختلفة التي من أهمها علم الفيزياء، فساعد ذلك على ظهور الكثير من الاختراعات المهمة والمفيدة، من أمثلتها الساعة المائية، وكما حدثت طفرة في الفيزياء التقنية والفلكية.

– أمر بإنشاء مصنع للورق، وبالفعل في عام 795 ميلاديا ظهر للنور أول مصنع في هذا المجال في بغداد، الذي أصبح فيما بعد سوقا كبيرا للوراقين، واشتمل على مجموعة من الحوانيت أو المخازن المتخصصة في بيع أجود أنواع الورق، حيث كان ورق بغداد من أغلى أنواع الورق على مستوى العالم آنذاك.

تكملة إنجازات الخليفة الرشيد

– لم يغفل هارون الرشيد عن الإصلاحات والتطورات الداخلية، فأمر بتشييد الكثير من المباني العملاقة الفخمة، فظهرت القصور والمساجد ذات التصميمات الفاخرة التي لا مثيل لها.

– في عصر الرشيد تم استعمال القناديل في الإضاءة خاصة لإنارة الشوارع والمساجد.

– شهدت الزراعة في عهده أيضا تطورا ملحوظا، فأمر ببناء الجسور والجدرات التي تعمل كحلقة وصل بين الأنهار ومصادر المياه.

– أنشأ ديوان متفرد لمتابعة جميع الأعمال الإصلاحية في جميع أرجاء الدولة العباسية.

– في عهده ظهرت فكرة حراسة الطرق، وحث على فكرة التبادل التجاري بين جميع الولايات، حتى أصبحت بغداد القلب النابض للتجارة في الشرق.

– ازدهر العلم بصورة كبيرة جدا في عصره، حتى أصبحت بغداد ملتقى العلم والعلماء، فكانت المساجد تؤدي دور الجامعات لطلاب العلم الذين يأخذونه من خيرة العلماء والفقهاء، كما توافد عليها الأطباء والمهندسون من كل حدب وصوب.

– غزارة أموال الخراج وفيضها بشكل كبير، فقد وصلت إلى قرابة 400 مليون درهم، وذلك بحسب ما جاء عن عدد من المؤرخين، لتسجل أعلى قيمة في تاريخ الخلافة الإسلامية، وكان يتم تجميع المال دون إيذاء أو ظلم، ويُنفق في صالح الأمة.

الجانب السياسي في عصر هارون الرشيـد

لم تكن الظروف السياسية في عصر هارون الرشيـد مستتبة بشكل كبير، فقد شهد عصره عدد من النزاعات الخارجية والداخلية أيضا، وحاول الرشيد اخمادها والتصدي لها بكل قوة وحزم، ومن أبرز الأوضاع السياسية التي واجهت الخليفة ما يلي:

1) ثورة الخوارج

ترأس الوليد بن طريف جماعة الخوارج الوافدين من شمال الجزيرة، وعبروا دجلة حتى بلغوا العراق لكي يتمردوا على الخليفة، ولكن هارون الرشيد واجههم وتمكن من قتل قائدهم وشتت جمعهم.

2) ثورة الديلم

دعا يحيى بن عبد الله العلوي إلى العصيان على الخليفة هارون الرشيد فقاد هذه الثورة، فقابلهم الخليفة في بادئ الأمر بالرفق وحذرهم، ولكنهم لم يستجيبوا له، فلم يجد اللين معهم شيئا فقابلهم بالعنف حتى تخلص منهم جميعا.

3) ثورة خراسان

قام أهل خراسان بالثورة على والي منطقتهم الذي كان يدعي ابن ماهان، وذلك بسبب شدة ظلمه وسرقته لأموالهم، وعندما وصل هذا الخبر إلى هارون الرشيد أمر بعزله على الفور.

4) الخلاف بين القيسية واليمانية

هاتان القبيلتان تتواجدان في بلاد الشام، وقد وقع بينهما نزاعات وخلافات، إلا أن الرشيد أدرك ضرورة المحافظة على الاستقرار والقوة في تلك المناطق، لتأمينها وحمايتها من غزو الروم، فأنهى الخصومة بينهما.

5) الفرنجة

كان هارون الرشيد يرغب في خلق صلة مودة واحترام مع قائد الفرنجة شارلمان، تفاديا لأي صراعات من شأنها أن تزعزع استقرار دولته، فأرسل له ساعة كهدية محبة، وقال المؤرخ الفرنسي فولتير أن أول ساعة عرفتها أوروبا هي ساعة هارون الرشيد لشارلمان.

6) الحرب مع الروم

خاض هارون الرشيد الكثير من الحروب والمعارك في مواجهة الروم، حيث كانت تنشب واحدة من هذه المعارك كل عام تقريبا، وحتى يتمكن الخليفة من الانتصار في هذه المعارك أراد أن يقوي أسطوله، فأقام دار لصناعة السفن، وأمن الثغرات التي يستغلها الروم ويهاجموا الدولة العباسية من خلالها.

وبعد الكثير من المعارك الطاحنة، تمكن المسلمون من فتح بعض حصون الروم وجزرهم، ذلك الأمر الذي أهابهم وجعل الخوف يتسلل إلى قلوبهم، فطلبوا من الخليفة عقد هدنة ووقف الحروب، فوقعت إيريني التي كانت ملكة الروم في ذلك الوقت على مصالحة مقابل سداد جزية للمسلمين.

وظلت هذه الهدنة قائمة حتى تقلد امبراطورية الروم ملك يسمى نقفور، الذي فسخ المصالحة وأبطلها، وأعلن الحرب على هارون الرشيد، فتوجه الرشيد بجيشه إلى هرقلة الموجودة بالقرب من القسطنطينية، لكن ملك الروم نقفور وعده بالعودة إلى الهدنة مرة أخرى، فصدقه الخليفة وتركه، وبعد مدة رجع نقفور إلى نقض العهد مرة ثانية، ولكن الرشيد في هذه المرة لم يمهله أي وقت وقاتله وقضى على 40 ألف من جيشه وحقق على الروم انتصار عظيم.

كيف مات هارون الرشيد ؟

أُصيب الخليفة هارون الرشيد بداء لا دواء له، وكانت أوضاعه الصحية تتدهور مع مرور الأيام، لكنه مع مرضه اضطر إلى الذهاب إلى خراسان، لوضع حد لحملات التمرد التي كانت بقيادة الأموي رافع بن الليث، وفي رحلته إلى هناك، وتحديدا في مدينة مشهد التي كانت تسمى طوس، لفظ الرشيد أنفاسه الأخيرة، وكان ذلك في عام 809 ميلاديا الموافق 193 هجريا، عن عمر يناهز 45 عام.