الحاجب المنصور | من لم يذق طعم الهزيمة يومًا

الحاجب المنصور

(آثاره تنبيك عن أخباره حتى كأنك بالعيون تراه … تالله لا يأتيك الزمان بمثله أبدًا ولا يحمي الثغور سواه) هكذا كُتب على قبر الحاجب المنصور ؛ فتى الأندلس الأول، القائد الفذ الذي استطاع أن يصل بالأندلس إلى أوج مجدها وجعل من قرطبة عاصمة للدنيا بأسرها، خاض مئات الحروب ضد الصليبيين فلم يُهزم في معركة قط فأينما تولى كانت الغلبة في ركابه، فمن يا ترى ذاك المنصور الذي كان اسمه كفيلًا بإنزال الهلع والخوف في قلوب ملوك أوروبا قاطبة؟!

من هو الحاجب المنصور ؟

الحاجب المنصور ذاك الرجل الذي تولى أعلى المناصب في الدولة الأموية في الأندلس، وبلغ فيها من المكانة ما لم يبلغها غيره حتى تمكن من السيطرة على مقاليد الحكم وإخضاع الجميع لسيطرته، وقاد العديد من الغزوات رافعًا فيها راية الجهاد، وفيما يلي لمحات مضيئة من حياته:

نسبه ونشأته:

يُدعى أبو عامر محمد بن أبي عامر، واسمه بالكامل هو أبو عامر محمد بن أبي حفص عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري، وقد وُلد في عام 327 هـ وكان ذلك في الجزيرة الخضراء في اليمن، ولذا فإن أصل الحاجب المنصور يمني.

كان أبوه من أعيان البلدة وعُرف عنه الورع والتقى، وجده لأبيه كان من الأبطال الذين دخلوا الأندلس برفقة “طارق بن زياد”،  أما أمه فهي “بُريهة بنت يحيى بن زكريا التميمي” من أشراف مدينة قرطبة، وكان أبوها وزيرًا وطبيبًا للخليفة الأموي “عبد الرحمن الناصر لدين الله”.

الرحيل إلى قرطبة:

وصل المنصور بن ابي عامر إلى مدينة قرطبة وهو في عمر الشباب من أجل طلب العلم والأدب والحديث، وبسبب حبه الشديد  للسنة النبوية بدأ في دراسة علم الحديث على يد “أبي بكر بن معاوية القرشي”، لكنه سرعان ما توقف عن طلب العلم بسبب الظروف السيئة التي تعرض لها والده.

وبعد ذلك بدأ في ممارسة العمل لكي يكسب أجرًا يساعده على المعيشة فعمل كـ “كاتب عدل”، حيث افتتح دكان بجانب قصر الخليفة وعمد إلى كتابة الرسائل لأصحاب المصالح، وبسبب أسلوبه الرائع في الكتابة وعباراته القوية لفت أنظار من في قصر الخليفة إليه.

تدرج الحـاجب المـنصور في المناصب العليا

بدأ الحاجب المنصور في لفت النظر إليه بسبب فصاحته وذكائه مما أدى إلى أن يكون وكيلًا لأكبر أبناء الخليفة “عبد الرحمن” وذلك بناء على ترشيح الحاجب “جعفر المصحفي”، وكان ذلك في عام 356 هـ، وفي نفس العام تولى مسئولية دار السكة، وبعد عامين تولى خطة المواريث.

مع أن ابن الخليفة “عبد الرحمن” تٌوفي وهو صغير إلا أن المنصور استمر في خدمة أمه حتى منّ الله عليها بطفل آخر وهو “هشام” فأصبح وكيلًا له في عام 359 هـ، وفي عام 361 هـ عينه الخليفة على الشرطة الوسطى.

لم يقتنع الحاجب المنصور بهذه المناصب فسعى إلى الزواج من أخت رئيس حرس الخليفة، ومن ثم بدأ يثري نفسه فبدأ ببناء منزل له بالقرب من القصر القديم لعبد الرحمن الأول، وفي أثناء خدمته لـ “صبح البشكنجية” جارية الخليفة وأم ولديه؛ رغب في التقرب منها وإرضائها.

وقد لجأ الحاجب المنصور إلى إغراء “صبح” بالهدايا، فأهداها نموذجًا رائعًا لقصر من الفضة، وقد اجتهد في خدمتها أيما اجتهاد مما أدى إلى أن عددًا من رجال الدولة ساورهم القلق بشأن تدرجه في المناصب العليا، وخشي بعضهم على مكانتم فاتهموه عند الخليفة بإضاعة مال دار السكة مما أدى إلى عزله، وبذلك انتهت الليالي البيضاء التي عاشها في دار السكة.

وصول الحاجب المنصور للسلطة

وصول الحاجب المنصور للسلطة

الحاجب المنصور وانفراده بالسلطة

تُوفي الخليفة “الحكم المستنصر بالله” في عام 366 هـ، وتم إعلان ابنه “هشام” خليفة له إلا أنه كان قاصرًا مما أدى إلى طمع الجميع في الخلافة، لكن محمد بن ابي عامر تمكن من التخلص من أعداء الخليفة الجديد، ومكنه من الحكم تحت وصاية أمه “صبح البشكنجية”، ومنذ ذلك الحين وسلطة ونفوذ الحاجب المنصور تتزايد يومًا بعد يوم حتى تمكن من السيطرة على السلطة ذاتها بعد أن تخلص من “الحاجب المصحفي” حاجب الخليفة.

ثم بعد ذلك طوق القصر الملكي بجنوده وأعلن بين الناس أن الخليفة قد أذن له بالتصرف في شئون الملك، وعلى الرغم من محاولات أم الخليفة المستميتة في التخلص منه وتثبيت حكم ابنها إلا أنها لم تتمكن من ذلك، حيث أفشل المـنصور كل مخططاتها التي تهدف إلى نزع سلطته وتثبيت سلطة ابنها.

وفي عام 371 هـ أُطلق على محمد ابن أبي عامر لقب “المنصور” ودُعي له على منابر المساجد، وتمكن من مقاليد الحكم.

الحاجب المنصور: علو الهمة في النهضة بالأندلس

في أثناء رغبة محمد بن ابي عامر في استكمال سيطرته على حكم الأندلس نهض بالدولة الأندلسية بطريقة لم تحدث من قبل، وفيما يلي مظاهر النهضة في عصره:

أولًا: التطور المعماري

في عام 368 هـ بدأ المنصور في بناء مدينته “الزاهرة” وشيد فيها قصرًا فخمًا، واستغرق بناء هذه المدينة عامين، وبعد أن انتهى البناء انتقل إليها هو وخاصته وشحنها بالأسلحة، وأقطع الوزراء وكبار رجال الدولة عددًا من الأراضي حولها حتى اتصلت بضواحي قرطبة.

بعد ذلك اتجه إلى توسعة المسجد الجامع بقرطبة وزاد من إنارته، وعمد إلى تعويض أصحاب الأراضي التي اتُخذت منهم لتوسعة المسجد بأضعاف ما يطلبون من أموال.

ثم عمد إلى تجديد قرطبة نفسها، وعمل على توسعتها وشيد فيها العديد من المباني حتى صارت قرطبة عاصمة للعلم والحضارة في عهده.

ثانيًا: النهضة بالاقتصاد

استطاع الحاجب المنصور أن يدير شئون البلاد الاقتصادية ببراعة، حيث شهدت الدولة في حكمه رواجًا اقتصاديًا، وزادت إيرادات الضرائب، وكثرت الغنائم في عهده.

ثالثًا:  تطوير الجيش وإرساء قواعد الأمن

اهتم الحاجب المنصور بجيشه اهتمامًا بالغًا، واعتمد على البربر في تكوين هذا الجيش، وبدأ في تقسيمه إلى فرسان ومشاة حتى وصل عدد الجيش إلى ما يزيد عن 150 ألف جندي، كما اهتم بالأسطول البحري فأمر بإنشاء دار لصناعة السفن، أما عن الحالة الأمنية في البلاد فقد تمكن من ضبط أحوال البلاد، واستطاع القضاء على كل حالات الانفلات الأمني وحركات التمرد.

معارك جمة خاضها الحاجب المنصور

لم يكن الحاجب المنصور بالحاكم الذي يجلس على العرش ويترك قادة الجيش هم من يتولون أمر الغزوات بل كان على رأس الجيوش يخوض غمار المعارك بنفسه تارة، وتارة يجهز الجيش ويرسله إلى المكان الذي يريده وذلك من أجل رفع راية الإسلام في أعالي السماء، ومن أبرز معارك الحاجب المنصور ما يلي:

1) غزوة ليون: من الغزوات الفاصلة التي قادها الحـاجب المـنصور، حيث انطلق إلى بلاط القوط على رأس جيشه في عام 373 هـ فانتصر فيها وأسر 3000 أسير.

2) فتح المغرب الأقصى: في عام 375 هـ جهز جيشًا كبيرًا لقتال “الحسن بن كنون” ذاك الشخص الذي قاد عصيانًا على الأمويين في المغرب، ونظرًا لهذا الجيش الكبير لم يتمكن الحسن من الصمود أمامه فاستسلم.

3) غزوة سانت ياقب: تعد مدينة سانت ياقب آخر معاقل المسيحيين في شمال غرب الأندلس، وهي من المدن المقدسة لديهم، فقام المنصور بوضع خطة لغزو هذه المدينة حيث أشرك القوات البرية والأسطول البحري في هذه المعركة، إلا أن هذه الغزوة لم تسفر عن اشتباكات بين المنصور وبين أهل المدينة وذلك لأنهم عندما علموا بأمر غزو الحاجب لهم تركوا مدينتهم وخلّفوا ورائهم الكثير من الغنائم.

4) غزوة برشلونة: في عام 374 هـ تمكن محمد بن ابي عامر من فتح مدينة برشلونة وضمها إلى بلاد الإسلام.

وفاة الحاجب المنصور

بعد أن قضى عمره في خوض غمار المعارك ضد الصليبيين وفتح البلدان جاءت اللحظة التي كٌتبت على كل إنسان، ففي أثناء عودته من إحدى حملاته العسكرية تٌوفي الحاجب المنصور في مدينة سالم “مدريد حاليًا” ودُفن هناك، وكان ذلك في 27 من شهر رمضان عام 392 هـ.

وذُكر عنه أن كان ينفض ثيابه من غبار المعركة بعد كل غزوة ثم يضع هذا التراب في قارورة وقد أوصى أن تُدفن معه حتى تكون شاهدة عليه يوم القيامة، حيث كان متمسكًا بحديث محمد رسول الله الذي يقول فيه: (لا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم).

قصة تدل على ذل أوربا في عهد الحاجب المنصور

فرحت أوروبا بموت المنصور لأنها استراحت من قائد أذاقها العذاب والألم، وتمكن من بلدانها وأرعب قادتها وحكامها، وهناك قصة تدل على فرح واحد من أكبر قادة أوروبا بموته بسبب ما فعله به، وأحداث قصة محمد بن أبي عامر بعد موته مع أحد قادة أوربا تتلخص فيما يلي:

((جاء القائد ألفونسو إلى قبر الحاجب المنصور ونصب عليه خيمة كبيره فيها سرير من الذهب، جلس عليه ومعه زوجته وقال:  أما ترون أني اليوم قد ملكت بلاد المسلمين والعرب وجلست على قبر أكبر قادتهم؟ فقال أحد الموجودين: والله لو تنفس صاحب هذا القبر لما ترك فينا واحداً على قيد الحياة ولا استقر بنا قرار.

فغضب ألفونسو وقام يسحب سيفه على المتحدث حتى مسكت زوجته ذراعه وقالت: صدق المتحدث، أيفخر مثلنا بالنوم فوق قبره؟!! والله إن هذا ليزيده شرفاً حتى بموته لا نستطيع هزيمته، والتاريخ يسجل انتصاراً آخر له وهو ميت، فقبحًا لما صنعنا وهنيئًا له النوم تحت عرش الملوك)).

متى وُلد الحاجب المنصور وأين؟

وُلد في عام 327 هـ في الجزيرة الخضراء.

ما المآخذ التي أخذها المؤرخون على الحاجب المنصور؟

أخذ المؤرخون عليه أنه تمكن من السيطرة على الحكم بطرق وأساليب وحشية، وكان يتخلص ممن يعارضه.

ما أبرز بيتًا شعريًا في شعر الحاجب المنصور؟

كانت له العديد من الأبيات الشعرية، وأبرز هذه الأبيات هو ما تحدث فيه عن نفسه وهو ((أنا الحاجب المنصور من آل عامر **** بسيفي أقد الهام تحت المغافر)).

متى تُوفي الحاجب المنصور وأين دُفن؟

تٌوفي في 27 من شهر رمضان لعام 392 هـ ودُفن في مدينة سالم (مدريد حاليًا).

مواضيع ذات صلة

مارية القبطيةمارية القبطية | الأمَة المصرية التي حملت أحشاؤها نجل الرسول

أدهم شرقاويأدهم شرقاوي | قس بن ساعدة هذا الجيل