ان غدا لناظره قريب | آملين بمستقبل مشرق

رصينة هي بطون الأدب العربي الملآنة بالأقوال التراثية والأمثال الشعبية الخالدة حتى يومنا هذا، فهي مرآة المستقبل الساطع وأمله القائم ومستحيله القاتم، فصدق مَن تفوه قائلًا: ان غدا لناظره قريب فلو نظر المرء إليه من نافذة حجرته الصغيرة لرآه ضحوكًا مبهرًا.

طلاقة العرب في قول الأمثال الشعبية ذات الأساليب البلاغية

لطالما عُرف العرب بأمثالهم الشعبية الرائجة التي فاحت في شتى الأنحاء مثلما تفوح روائح الزهور في البستان، فلكل مقولة هدف قد انبثقت من أجله، فحينما قيلت عبارة تجري الرياح بما لا تشتهي السفن قُصد بها التعبير عن سريان أمور الإنسان عكس ما يهواه، ولكن أي عربي مَن تلفظ بهذا الشطر؟! إنه لشاعر العرب “المتنبي” الذي ظلّ شعره مصدر إلهام لغيره من الشعراء.

لم يأتِ على الأمثال التراثية ذاك الزمان الذي ستنقضي فيه بعد، فلا زالت تتواتر واحدةً تلو الأخرى وكأنها تسابق الوقت، ولعل أشهرها مقولة ان غدا لناظره قريب التي قيلت في حادث شهير وما زالت متداولةً بين الناس حتى الآن، فمتى انبلجت وفيما ذُكرت وما مدلولها؟ هذا موضوع حديثنا اليوم.

صاحب المثل الشعبي | ان غدا لناظره قريب

“فإن يكُ صدرُ هذا اليومِ وَلَّى .. فإن غدًا لناظره قريب” لقد تفوه بهذا الشطر الأدبي قُراد بن أجدع الكلبي أحد اشهر شعراء العصر الجاهلي ، الذي ينحدر نسبه من بني الحداقية، وكان مواظبًا على حضور مجالس الأمراء وملوك الحيرة، ولقد أنشد ان غدا لناظره قريب بعدما بات على مقربة من الموت.

وان غدا لناظره قريب من القائل ؟ يدور هذا السؤال بأذهان الكثيرين الذين يودون معرفة منبع هذا المثل التراثي الدارج، ولهذا أجبنا عليه في الأسطر السابقة ليكونوا على دراية بصاحبه، أما عن تساؤل متى تقال إن غدا لناظره قريب ؟ فيُنطق بهذه العبارة في حال فقد اليأس والشعور بالخيبات من جراء الرسوب في بلوغ الأهداف.

القصة وراء قول المثل الشعبي | ان غدا لناظره قريب

تخبرنا قصة المثل ان غدا لناظره قريب أن الغد ليس ببعيد، فتحقيق الأماني المرجوة مذ سنوات قد تكون فيه، وأن المستقبل قريب كل القرب من حياتنا التي لو نظرنا إليها بعين مشرقة لرأيناه يبتسم لنا، فإن وجد اليقين صار بلوغ المراد ممكنًا، ولذا علينا التأني وعدم الجزع على فشل الوصول مبكرًا، ففي غمضة عين يحدث المبتغى!

– رحلة صيد أحد ملوك الحيرة برفقة فرسه اليحموم

خرج (النعمان بن المنذر) أحد ملوك الحيرة التي كان امرؤ القيس واحدًا منهم ممتطيًا على فرسه في رحلة للصيد مع أصحابه، فكان يسير على آثار خطى بعيرهم ولكنه فجأةً ما انحدر عنها حينما رأى ظبيًا في الصحراء فهرول خلفه، وظلّ يلاحقه بجواده إلا أن الظبي قد أفلت قبل الوقوع فريسةً في يديه، فوجد النعمان نفسه في مكان لم يتواجد فيه سواه وفرسه، فالظلام قد أتى والأمطار حلت وأصوات الرعد تتزمجر حوله، واليحموم يركض سريعًا ليستغيث بمَن سيدله على المخرج!

– وليمة لضيف مجهول

ظلّ الملك على هذا الحال ساعةً حتى أخذه فرسه إلى خيمة ما يحرسها أعربي، فألقى عليه التحية وهو يرتجف من البرد فأسرع الرجل (حنظلة) إلى مساعدته بإعطائه لباس نظيف، وطلب من زوجته إكرام هذا الضيف ولم يكن لديهم طعام سوى شاة واحدة وبعض الطحين، فأعدت له الطعام على عجل فاستطعمه وأعجبه كثيرًا، فكم كانت قبيلة طيء أهلًا للجود والكرم الذي دفعها إلى إجلال مَن هو مجهول على أفرادها؟!

بقى (النعمان) متسامرًا مع (حنظلة) منصتًا إلى القصص والأمثال التي يسردها له حتى هلّ الصباح عليهما، ولم يفصح الملك عن هويته أمام هذه العشيرة الفقيرة بعد، فاستأذن بن المنذر من الرجل أن يمنحه رداءه فوافق على الفور، واعتلى فرسه محدثًا إياه: “يا أبا طيء، اطلب ثوبك.. فأنا الملك النعمان، فأجابه: أفعل إن شاء الله” وكأن هذا القميص هو العلامة التي سيتذكره بها.

– يوم بائس في حياة بن المنذر

تواترت الأيام والأعوام وحان الوقت لطلب الحاجة، فحال هذه الأسرة صار متعسرًا وبشدة من جراء ذلك القحط الذي أهلك ماشيتها وثروتها حتى إن تناول لقيمات الطعام يكاد يكون عصيبًا عليها، فطلبت زوجة الأعرابي منه أن يقصد الملك لربما يكرمه مثلما أكرموه من قبل، فذهب إليه وحينما وصل وجده في حالة ضيق وضجر شديد!

تعرّف النعمان على هذا الأعرابي حينما رآه وقال له: (أفلا جئت في يوم غير هذا، فقال الرجل: وما أدراني بهذا اليوم، فقال: إنه ليوم شؤمي، ولو سألني فيه سائل لقتلته ولكن لك علي دين فاطلبه قبل أن أقتلك) فتفاجأ الرجل بما سمع وفوض أمره لله -عز وجل- وقال له: افعل بي ما تشاء أيها الملك، لكن أتوسل إليك أن تمنحني بعض ما يعوضني عن أغنامي التي هلكت ورزقي الذي انقطع لكي أتركه لأهلي ليعتاشوا عليه بعدي) ثم آتيك لتفعل بي ما تراه.

– كفالة قُراد بن أجدع للطائي

أعطى النعمان هذا الطائي خمسمائة ناقةٍ وحدد له مهلة عامٍ يقضيها بين عشيرته، وطلب كفيلًا عنه يضمن عودته بعد مضي سنةٍ، وقد كان في المجلس رجل ما يُدعى (قُراد بن أجدع الكلبي) فتقدم ليكفله، فأيّد الملك الرأي بأن يكون قراد محل الطائي حتى يعود، فإن لم يعد هذا الأعرابي إلى قصر النعمان بعد عام فستُقطع رأس بن أجدع نيابةً عنه.

– الوفاء بالوعود من شيم العرب

لقد مرّ من الوقت 364 يومًا أي عام إلا يوم فأراد بن المنذر أن يثأر بقتل بن أجدع، فالمهملة قد أوشكت على الانتهاء والأعرابي قد لا يأتي الغد! لذا كان النعمان مستعدًا ليقتص من كفيل الطائي لكي يفتدي به تحسبًا لعودة الطائي، وفي تلك الأحيان صدرت مقولة ان غدا لناظره قريب أي يتحتم الترقب حتى تنتهي المدة.

ولما جاءت اللحظة الحاسمة التي سيُقطع فيها رأس قُراد رأى النعمان ورجاله شخصًا ما يلوح بيديه من بعيد، فتوقف الملك حتى أتاهم هذا الرجل فسقطت الصدمة عليهم جميعًا، فالطائي قد أتى وأوفى بوعده، أعاد ليُقتل ويُهدر دمه! فـ ان غدا لناظره قريب حقًا، فلقد تسرع الملك في إصدار حكمه وكأنه قد فقد الأمل في عودة الأعرابي ليكون ضحيته.

ما حملك على الرجوع بعد نجاتك من الموت؟ هكذا وجّه النعمان سؤاله إلى الأعرابي، فرد عليه مجيبًا: الوفاء، فأعاد سؤاله إليه: وما حملك على الوفاء؟ فأجابه: ديني، فقال الملك: وما هو دينك؟ فأخبره بديانته فاستحسنها بن المنذر وسار على نهجها، وعفى عن الأعرابي وقُراد الكلبي، فيا ليتنا نأخذ بمقولة ان غدا لناظره قريب ونناهض ما تجول بخاطرنا من الأفكار السلبية!

إن غدا لناظره قريب قصيدة .. فما أبرز أبياتها؟

تلفظ قراد الكلبي بأبيات شعرية ردًا على النعمان بن المنذر الذي أراد الاقتصاص منه قبيل انتهاء المهلة وكأنه يردد في نفسه: اتقي شر من أحسنت إليه ، واندرجت هذه الشطور تحت قصيدة ما سُميت بـ ان غدا لناظره قريب والتي من أبرز سطورها ما يلي:-

إن يكن نصف اليوم ولى … فإن غدا لناظره قريب

فإن يكُ صدرُ هذا اليوم وَلىّ … فإن غَداً لناظره قريبُ

ما مدلول المثل الشعبي إن غدًا لناظره قريب؟

يدل هذا المثل التراثي على ضرورة الانتظار وعدم التسرع في أخذ القرارات.

ماذا أنشدت زوجة قراد حينما رأته على مشارف القتل؟

أي عين بكى لي قراد بن أجدعا ... رهيناً لقتل لا رهيناً مودعا أتته المنايا بغتة دون قومه ... فأمسى أسيراً حاضر البيت أضرعا

بمَ لُقب النعمان بن المنذر؟

لُقب النعمان أشهر ملوك المناذرة في عصر ما قبل الإسلام بأبي قابوس.

ماذا يُستمد من هذا المثل الشعبي؟

يُستنبط منه حكم ومواعظ عدة منها: الوفاء بالوعود، التحلي بالصبر والعزيمة.

مواضيع ذات صلة

ما السر وراء المثل الشعبي هذا الشبل من ذاك الأسد ؟

كلام عن الاختكلام عن الاخت | مُهجة البيت وسر سعادته