الامام مالك | سيد الأئمة وحُجة الأمة

الامام مالك

يزخر التاريخ الإسلامي بنماذج مشرفة وشخصيات عظيمة نشرت علمها في الأمصار ونالت شهر واسعة في سائر الأقطار ومن أشهر هؤلاء الأخيار وأحد الفحول الكبار والنبلاء العظام الامام مالك الذي ضُربت إليه أكباد الإبل وارتحل إليه العباد من شتى البلاد طالبين التزود من علمه الغزير وفقه الرشيد، فكان الامام مالك كالشمس الساطعة في الأكوان وصدق الامام الشافعي حين قال:(إذا ذُكرَ العلماءُ فمالكٌ النجم).

الامام مالك | نجم العلماء وإمام الأئمة

على الرغم من مرور ما يزيد عن 1200 عام على وفاة إمام دار الهجرة الامام مالك إلا أن سيرته العطرة ما زالت لاصقة في عقول المسلمين، وعندما تُستحضر ميادين الدين يأتي اسم الامام مالك في طليعة مَن أثروها، فهو إمام أمين وورع وجليل، نجم مُضيء في سماء العلم وغرة في جبين المعرفة وكان من أوائل الكوكبة المُربين الذين كانوا قنديل نور لأمتهم.

كان الامام مالك من القلة القليلة الذين حباهم المولى -عز وجل- في حياتهم وبعد وفاتهم الشهرة والقبول، ولم يخش مالك في الحق لومة لائم، فدعا إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة فلقى قبولا كبيرا من الناس وسيطر علمه على قلوبهم قبل أذهانهم، ولم يبخل بقطرة عرق لخدمة الدين الإسلامي بعلمه وبقفه، حتى بات في عيلة وأساطين الدين.

بعض النقاط المضيئة حول نسب فقيه الأمة

يعود التاريخ الذي كان شاهدا على ميلاد مفتي الحجاز أحد الأئمة الأربعة الامام مالك إلى عام 93 هجريا الموافق لسنة 711 ميلاديا، ويُدعي (مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن الحارث الأصبحي)، وُلد سيد الأئمة في المدينة المنورة وعاش طوال حياته في أكنافها لم يغادرها على الإطلاق إلا لحج أو عمرة.

وأمه هي (العالية بنت شريك بن عبد الرحمن بن شريك الأزدية)، فكانت تلك المرأة كلمة السر وراء نجابة وظهور إمام جليل صاحب شخصية عظيمة تركت علامة فارقة في اصول الفقه ، وحفرت اسمها من نور عبر العصور، حيث أحسنت الأم توجيه ابنها وانتقت له الطريق السوي ومهدت له أسباب النجاح وألبسته لباس العلم ليسلك نهج العلماء المؤثرين، فاستحقت بحق لقب أم صالحة.

كان جده لأبيه من علية العلماء والتابعين، وكان من هؤلاء الأشخاص الذين شاركوا في كتابة المصاحف حين تم جمعها في حُقبة الخليفة عثمان بن -عفان رضى الله عنه-، وتبادر إلى أذهان العديد من الناس تساؤلات جمة بخصوص والده و هل الإمام مالك ابن الصحابي أنس بن مالك ؟ ونجيب على هذا التساؤل بأنه مجرد تشابه أسماء ولا تجمعها علاقة قرابة.

ملامح نشأة الإمام مالك حُجة الأمة

لقد نشأ وترعرع الامام مالك في إحدى أفضل بقاع الأرض ألا وهي المدينة المنورة التي هي مهبط الوحي ومقر الهجرة وركيزة الرسالة، وفيها تجلى الحق وشُيدت الدولة ورُفع مشعل الدين وأنار جميع الميادين، ومنها فُتحت الأقطار وتتابعت الأجداد والأجيال، وفي تلك البقعة كان العدل ناصعا والدين خالصا، وفيها زُمرة الصحابة والفقهاء المشهورون، وكانت صاخبة بالدين القائم والسنة المعلومة والعلماء السانحون، فكانت منارة للعلم والخير

يا لها من بيئة إيمانية عظمية وعلمية خالصة شبَّ عليها الإمام مالك، وكانت خير عون له في شق مستقبله نحو حلقات العلم والحديث ومجالسة أساطين العلم في ذلك الوقت الذي تأثر بهم كثيرا، وكان من شيوخ الإمام مالك في صغره (ابن هرمز)، (ربيعة الرأي)، (مولى بن عمر)، فكان كالطير الذي يتنقل بين أغصان الأشجار وينتقي من كل شجرة ما يختار من ثمار.

كما نشأ في بيت اشتُهر باهتمام أصحابه بالعلم والحديث الشريف، فقد أقبل الإمام مالك على طلب العلم وهو في سن صغيرة وساعده على ذلك ذكائه الكبير وعقله السديد وإتقانه الشديد وقدرته الكبيرة على الحفظ بصورة سريعة حتى تمكن من حفظ القرآن، ثم توجه بعد ذلك لحفظ الأحاديث الشريفة.

شرع الإمام مالك يجوب بين علماء عصره لينهل منهم العلم ويرتقي في علمه، ولقوة ذكائه ورجاحة عقله وإتقانه لعمله، بلغ حد التصدر وصار فقيه الحجاز الأول وإمام دار الهجرة، وبات الناس يأتون إليه من كل حدب وصوب، ليأخذوا عنه العلم وينقلوا فتواه ومعتقداته وأفكاره، ويمكنك عزيزي القارئ بواسطة كتاب سيرة الإمام مالك بن أنس pdf معرفة المزيد أكثر عن تفاصيل حياته والمعلومات الدقيقة والصحيحة حول قصة الإمام مالك مع أبيه.

مذهب الإمام مالك

من رحمة المولى -جل علاه- بهذه الأمة أن جعل الاختلاف العنوان الأبرز لعدد من المسائل والأحكام التي تتطرق لها علماؤها، وذلك من أجل التخفيف والتيسير لا من أجل التعقيد والتعسير، وكان من بين المذاهب الأربعة ذائعة الصيت في أصول الفقه وأموره مذهب الإمام مالك سيد الأئمة الذي كان يخشى الله -تعالى- حينما يتم سؤاله عن موضوع ما غير مُلم به فيجيب لا أدري.

رسم الامام مالك لنفسه طريقا معينا في الفقه ومسائل الشريعة شملها مذهبه الذي أُطلق عليه المذهب المالكي فيما بعد، وكان نمط الإمام مالك العلمي وانتقاؤه الفقهي مُستنبطا أولا من كتاب الله عز وجل، فإن لم يجد يأخذ من سنة الحبيب سيدنا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

إن تعثر الامام مالك في إيجاد ما يبحث عنه في السنة المحمدية، توجه إلى فتاوى الصحابة الأخيار، وذلك لأنهم عاصروا النبي المختار -عليه الصلاة والسلام- ويعرفون الكثير من الخبايا والأسرار، وألمّوا جيدا بمعاني اللغة والأحكام والتفسير، ثم يأخذ بعد ذلك بإجماع علماء الأمة فيما ليس فيه دليل من كتاب الله والسنة.

تضمن مذهب الامام مالك أيضا الأخذ بالمصالح المرسلة وهي التي تعني الإتيان بمنفعة أو دفع ضرر لم تشهد لها الشريعة الإسلامية ببطلان ولا إقرار بعينه، لأن الدين أتى بحفظ مقاصده في الخلق، ويعمل هذا المذهب أيضا بالقياس والاستحسان والعرف، بالإضافة إلى سدُ الذرائع التي أقبل الإمام مالك على استعمالها بكثرة في فتواه لدرجة أن عدد ليس بالقليل من العلماء اعتقدوا العمل بها خصوصيات مذهب الامام مالك.

مذهب الإمام مالك

مذهب الإمام مالك

نقاط إضافية حول مذهب الامام مالك

أخذ مذهب الامام مالك في الانتشار ولاقي شهر واسعة في العديد من الأقطار والآفاق بسبب بساطته ويسره في الكثير من الأحكام التي تخفف على العباد، حتى أن بعض حكام البلاد أمروا شعوبهم ورعاياهم بالعمل بالمذهب المالكي مثل حاكم الأندلس، وذاع صيت هذا المذهب أيضا تونس وتضارب مع المذهب الحنفي الذي كان سائدا فيها آنذاك والذي أسسه أبي حنيفة النعمان ، فانقسمت البلاد وأقرت العمل بالمذهبين المالكي والحنفي.

والجدير بالذكر أن الإمام مالك لم يسع إلى تأسيس مذهب لنفسه يحوي العديد من القواعد والأركان بهدف نشرها في البلاد، ولكن كان غرضه يتبلور في تقديم فتاوى للناس لكي تنفعهم وتساعدهم في توضيح ما التبس واختلط عليهم من مسائل، وتلاميذ الإمام الجليل هم من نقلوا عنه جميع تلك المسائل والقضايا وسجلوها في أحد أضخم الكتب التي أرست قواعد مذهب الإمام مالك ألا وهو المدونة الكبرى، وظل يُعمل ويُفتي بالمذهب المالكي قرابة السبعين عاما.

موطأ الإمام مالك | عُصارة الإمام العلمية والحديثية

أبقى الإمام مالك ورائه إرثا كبيرا وعظيما من الكتب والمؤلفات التي لا مثيل لها ومن أبرزها؛ كتاب تفسير غريب القرآن، كتاب في المسائل، رسالة في الرد على القدرية، رسالة في الوعظ، ولكن من اشهر مؤلفات انس بن مالك في الفقه على الإطلاق هو كتاب الموطأ الذي يعد أكثر المؤلفات منفعة وتأثيرا، كما أنه يأتي في طليعة كتب الحديث الشريف التي دُونت في هذا المجال.

استغرق كتاب موطأ الإمام مالك قرابة الأربعين سنة لكي يتم الانتهاء من تحريره، واشتمل هذا الكتاب على عشرة آلاف حديث، فهو ذو منزلة عظيمة في الإسلام، حيث تم تصنيف كتاب موطأ الإمام مالك ضمن أعظم الدواوين الإسلامية والكتب الهامة التي تضمنت الأحاديث الموثوقة والمنقولة عن الصحابة الأجلاء والتابعين من بعدهم، كما احتوى هذا الكتاب أيضا على اجتهادات فقيه الحجاز الامام مالك وفتاويه بخصوص بعض المسائل.

قام الإمام مالك بتهذيب وترتيب كتاب الموطأ بصورة بسيطة وسلسة للناس، وقال البعض إن ذلك هو سبب إطلاق اسم الموطأ عليه، ولكن هناك بعض الأقاويل الأخرى التي تقول إن السبب الأساسي وراء تسمية هذا الكتاب بذلك الاسم هو أن الإمام مالك قام بعرضه على عدد كبير من فقهاء المدينة لكي يستيقن من جودته، فجميعهم واطأوه عليه أي وافقوا عليه، لذلك أطلق عليه هذا الاسم.

صنف الامام مالك الأحاديث النبوية في كتابه الموطأ إلى عدة أبواب بناء على المسائل الفقهية وما يساعد المسلمين في الإلمام بعبادتهم وأعمالهم وآدابهم، وخصص في نهاية الكتاب بابا اشتمل على بعض النقاط التي لا يمكن إدراجها ضمن أبواب فقهية خاصة ببعض الأعمال، واجتمع فقهاء الأمة على أن موطأ سيد الأئمة هو أعظم المراجع الإسلامية على الإطلاق، لدرجة أنهم وضعوه بعد كتاب الله وسنة رسوله.

محنة الإمام مالك | جرأة في الحق

عُرف عن الإمام مالك بأنه ذا آراء جريئة ولا يخشى أحدا في قول الحق، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعظ الولاة والحكام وينصحهم بتقوى المولى -سبحانه وتعالى-، ولكن ظهرت محنة الإمام مالك في ولاية الخليفة أبي جعفر المنصور، حيث تعرض لأشكال عدة من التعذيب والإهانة، وقيل إن ذلك عائد إلى كثرة ترديده لحديث المصطفى سيدنا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(ليس على مستكره يمين).

كانت فتوى الامام مالك بخصوص عدم وجوب طلاق أو يمين المكروه بداية المحنة التي تعرض لها، فقد نالت هذه الفتوة غضب الحكام والولاة، حيث إنهم كانوا يُجبرون العباد على القسم بالطلاق عند مُبايعة الخليفة، فاعتقد الحكام أن فتوى الإمام مالك هذه ستُسقط البيعة التي يُعاهدها مَن حلف بالطلاق، ولذلك أُصدرت الأوامر من والي المدينة آنذاك وهو جعفر بن سليمان بأن يُضرب بالسياط، ولشدة الضرب انفكت ذارعه، ولكنه لم يغير رأيه وظل متمسكا به.

وصايا الإمام مالك لتلاميذه

لم يبخل إمام دار الهجرة بعلمه الغزير الذي يحمله بين جانبيه فكان يرى أن العلم الذي وضعه الله سبحانه وتعالى- في قلبه وعقله لا يجب أن يُكتم، وأغدق بوصاياه السديدة على تلاميذه ولكن وصية الإمام مالك للشافعي لا تسكن الريف مشكوك في صحتها فهي رواية ضعيفة ولم تُنقل عنه بل قيلت إنها جاءت على لسانه، ولا يوجد لها أثر في أي كتاب للإمام مالك كما يزعم البعض.

متى وُلد الامام مالك ومتى تُوفي؟

ولد الإمام مالك في سنة 93 هجريا، وانتقلت روحه إلى الرفيق الأعلى في عام 179 هجريا ودفن بالمدينة المنورة.

مَن هم أشهر شيوخ الإمام مالك؟

بصر إمام دار الهجرة من الشيوخ ما لم يبصره أحد بعده، حيث قد وصل عدد الشيوخ الذي نهل من علمهم قرابة 900 شيخ من بينهم 300 شيخ من التابعين، ومن أبرز الشيوخ الذين تتلمذ على يدهم الإمام مالك؛ ابن هرمز، نافع مولى ابن عمر، ربيعة بن أبي عبد الرحمن، يحيى بن سعيد الأنصاري، عامر بن عبد الله بن الزبير.

من هم أشهر تلامذة الإمام مالك؟

اغترف عدد كبير من التلاميذ من البحر الواسع لعلم حُجة الأمة الإمام مالك، وقالت بعض الروايات إن عدد التلاميذ الذين تتلمذوا علي يد الإمام مالك وصل إلى ما يزيد عن 1400 تلميذ من أشهرهم؛ ابن مبارك، ابن مهدي، الليث، الشافعي، يحيى بن يحيى الأندلسي.

هل الإمام مالك من التابعين ؟

لا لم يكن سيد الأئمة من التابعين، وإنما تم إدراجه ضمن قائمة تابعي التابعين، حيث لم يلتق في حياته بأحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فلفظ التابعي يٌطلق فقط على من ثبُتت رؤيته لواحد من الصحابة.

مواضيع ذات صلة

عروة-بن-الوردعروة بن الورد | الشاعر الصعلوك صاحب الذكر الحسن

سفيان الثوريسفيان الثوري | الإمام العابد والرجل الزاهد